الإقليم والعلاقات الدولية
يكثر الحديث عن الفشل – النجاح الروسي في سورية والعالم؛ وفق قراءة متسرعة في أغلب الأحيان لبعض الأحداث والأخبار الصحفية المسربة هنا وهناك، فتارة تصبح روسيا الطرف المهيمن إقليمياً وتارة أخرى تصبح مجرد أداة أمريكية في المنطقة لا أكثر، وهو ما يتناسى بشكل أو بآخر طبيعة المرحلة الدولية والإقليمية وتوازنات القوى والأهداف المركزية الروسية والدولية في المنطقة والعالم. فمن الملاحظ في هذه المرحلة تعدد الأحداث اليومية ذات الدلالات المتناقضة؛ لاسيما حين نحاول ربط جميع المتغيرات الإقليمية والدولية بالملف السوري وبتوازن القوى الدولية في سورية، سواء روسياً، تركياً، إيرانياً؛ والأهم أمريكياً، الأمر الذي يتطلب معالجة متأنية في التحليل كي نقي أنفسنا من الغرق في التناقضات اليومية ومن التعلق بأوهام زائفة.
حيث نجد انحساراً كبيراً في قدرة النظام الرسمي العربي الفردي والجماعي على الفعل والتأثير في القضايا الإقليمية رغم تعدد مظاهر التدخل بها، فغالبيتها تثبت فشل هذه التدخلات أو عجزها عن ضبط الأوضاع العربية دون تدخل خارجي مباشر وواضح. ويضاعف فشل النظام العربي من مخاوفه من التحركات الشعبية، ويدفعه نحو المضي أكثر في مواجهتها ومحاولة التحكم بها وحرفها عن غاياتها، كما يدفعه نحو المزيد من الخضوع لسيطرة القوى الخارجية المتدخلة في شؤون المنطقة. لذا يزداد ضعف النظام الرسمي العربي يوماً بعد يوم، تماماً كما تزداد تبعيته للقوى الفاعلة؛ صهيونية وأمريكية وروسية وتركية وإيرانية.
في المقابل يعزز تراجع الاهتمام والتدخل الأمريكي في المنطقة من طموح باقي القوى التي تأمل في تحسين موقعها الإقليمي، لاسيما في ظل عجز النظام الرسمي العربي وحاجته لدعم ومؤازرة خارجية. حيث نشهد تنافساً دوليا وإقليمياً على تحسين المواقع الإقليمية، وعلى اكتساب أوراق قوة إقليمية كي تعزز من حظوظها في وراثة الولايات المتحدة الأمريكية مستقبلاً، في حال تحول الانحسار الأمريكي إلى انسحاب كامل. إذ نحن أمام انحسار أمريكي يحفظ لها قدرتها على التحكم بالمنطقة، وهو ما تدركه القوى الفاعلة لذلك تتجنب الصدام مع أمريكا كي لا يعيدها الصدام بقوة إلى المنطقة أو يساهم في تعزيز موقع قوة إقليمية أخرى، بالتوازي مع الحاجة إلى مواصلة الضغط على أمريكا بغرض دفعها لتسريع انحسارها الإقليمي وعملية انسحابها منه.
في المقابل تعمل القوى الفاعلة في الإقليم على انتهاز فرصة تراجع الاهتمام الأمريكي بالمنطقة على أفضل وجه ممكن، من خلال فرض وجودهم كقوى إقليمية ودولية مؤثرة، بدلاً من الاستمرار في لعب دور القوى التابعة لأمريكا ولو على الصعيد الإقليمي فقط. لذا نشهد اصطفافاً بين مجموعة من القوى الفاعلة هنا أو هناك، يبدو في بعض اللحظات وكأنه تحالف إقليمي في مواجهة أمريكا ذاتها. وهو ما يجعل خريطة العلاقات الدولية في المنطقة والإقليم تشبه المتاهة المعقدة والمتداخلة التي يصعب فك خطوطها عن بعض، فمن ناحية نشهد جهوداً دولية فردية تسعى لكسب الود الأمريكي لخلافتها في المنطقة برضاها، ومن ثم نشهد اصطفافاً دولياً وإقليمياً لا يرقى لمستوى التحالف، بغرض تسريع عملية الانسحاب الأمريكي، على التوازي مع تنافس هذه القوى فيما بينها، بغرض إضعاف حظوظ الآخرين في المنطقة، التي تصل في بعض الأحيان لمستويات توحي باحتمالية الصدام العسكري فيما بينها.
وعليه فإن مظاهر التوافق الأمريكي مع أي من هذه القوى خادع قليلاً، فهو لا يعبر عن تفويض أمريكي مطلق لهذا الطرف أو ذاك، كما لا يعبر عن انسحاب أمريكي من هذا الملف أو ذاك، ولا يعبر عن ضغط أمريكي على باقي القوى المتنافسة بغرض دفعها للتسليم للقوة التي توافقت معها أمريكا. فمثلًا كثيراً ما يتم الإشارة إلى التفويض الأمريكي للروس بالملف السوري، على اعتباره تسليماً مطلقاً للروس على حساب الإيرانيين والأتراك، لذا يتوهم بعضهم بأن ذلك يعني إخراج الإيرانيين والأتراك كلياً من الساحة السوية، حتى باتوا مقتنعين أن العائق الوحيد أمام مباركة أمريكا على تطبيق الحل الروسي تكمن في عدم تجرؤ الروس حتى اللحظة على طرد الإيرانيين من سوريا. وعليه نقيس مواقف مشابهة مبنية على الدعم الأمريكي الكبير المقدم للقوى الكردية الانفصالية، التي يفسرها بعضهم وكأنها تحالف استراتيجي على حساب العلاقة الأمريكية – التركية. بينما يوحي الضوء الأمريكي الأخضر تجاه العمليات العسكرية التركية داخل المناطق الخاضعة لسيطرة القوى الكردية الانفصالية، لبعضهم بنجاح الضغط التركي في إعادة ترتيب تحالف أمريكا بما يفضي إلى دعم الأتراك وتجاهل الروس وقوى الانفصال الكردية في ذات الوقت.
حيث تكشف الأحداث الإقليمية المتلاحقة عن خطأ هذه القراءات سريعاً، بحكم كثرة تقلباتها التي يعجز التحليل المتسرع عن تفسيرها، فهي لا تعبر عن تفويض مطلق لأي من القوى الدولية الفاعلة لخلافة أمريكا في المنطقة بشكل كامل أو جزئي من ناحية أولى، أو عن متانة علاقاتها أو على توافقاتها وتداخل مصالحها مع غالبية القوى الفاعلة في المنطقة بما فيها إيران، من ناحية ثانية، كما يبدو مؤخراً في التقارب الأمريكي مع حلفاء إيران في لبنان بما يخص ملف ترسيم الحدود. وعليه نستطيع القول إنها فوضى دولية عامة تتجسد إقليمياً في تعدد التحالفات المؤقتة زمنياً والمحددة جغرافياً وسياسياً، لذا يفضل وصفها بالتوافقات المؤقتة حتى لو امتددت لبرهة طويلة من الزمن نسبياً. فطبيعتها المؤقتة مستمدة من الفوضى الدولية ومن محاولة الأطراف المتعددة على استثمارها عبر الحد من حدة التنافس والتصادم الدولي في هذه المنطقة أو تلك. وبالتالي قد تتحول هذه التوافقات بين ليلة وضحاها إلى صدام عنيف إن استشعرت القوى المتنافسة قدرتها على حسم المعركة، بالتزامن مع مباركة أمريكية؛ دولية لها، أو على الأقل مع تلمس انسحاب أمريكي من المنطقة.
لذلك يبدو أن كل ما يحدث هو صراع دولي على احتلال المنطقة والسيطرة عليها، يأخذ أحياناً طابعاً سياسياً توافقياً ظاهرياً، ويتجسد في أحيان أكثر على صورة تنافس شرس قد يصل لحد الصدام العسكري. لكن الثابت والواضح الوحيد اليوم هي طبيعته الاستغلالية والاستعمارية التي تنهب أو سوف تنهب ثروات المنطقة وتعمل على إدامة تجزئة المنطقة وتخلفها، بغض النظر عن هوية الطرف أو ربما الأطراف المسيطرة. كما يبدو من سمات هذه المرحلة أيضا استحالة ضبط حركة الشعوب والسيطرة عليها كلياً من قبل القوى المسيطرة المحلية والخارجية النافذة، بسبب جهودهم المبذولة في السيطرة والتنافس وهو ما يمنح الشعوب مساحة أوسع لتنظيم ذاتها وترتيب أوضاعها كي تبني قواها الذاتية القادرة على مواجهة هذه الصعاب وفرض رؤيتها التحررية والتقدمية في المستقبل المنظور. وأخيراً يصعب التكهن اليوم بنتائج الصراع الدولي النهائية فالمتغيرات كثيرة والتقلبات واردة بين يوم وليلة.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”