الإجهاض: جريمة أم حق مشروع؟
تعتبر قضية الإجهاض واحدة من أكثر القضايا تعقيداً وحساسية في العالم، حيث تتداخل فيها الجوانب القانونية والدينية والاجتماعية. وفقاً لحقوق الإنسان، يُعتبر الإجهاض جزءاً من حقوق الصحة الإنجابية، والذي يتضمن حق المرأة في اتخاذ قرارات تتعلق بجسدها وحياتها الإنجابية. ومع ذلك، تختلف المواقف تجاه الإجهاض بشكل كبير بين مختلف البلدان والثقافات، مما يعكس تنوع القيم الاجتماعية والدينية.
في أوروبا، يُنظر إلى الإجهاض بشكل عام كحق من حقوق المرأة. في العديد من الدول الأوروبية، مثل فرنسا والسويد وإسبانيا، يُسمح بالإجهاض بناءً على طلب المرأة خلال المراحل المبكرة من الحمل، عادة حتى الأسبوع الثاني عشر إلى الرابع عشر، دون الحاجة إلى مبررات قانونية. على سبيل المثال، في فرنسا، ينص قانون الصحة العامة الفرنسي على أنه يمكن للمرأة إجراء الإجهاض حتى الأسبوع الثاني عشر من الحمل، بينما في السويد، يُسمح بالإجهاض حتى الأسبوع الرابع عشر وفقاً لقانون الإجهاض السويدي. تهدف هذه السياسات إلى ضمان حقوق المرأة في اتخاذ قرارات صحية آمنة وفعالة، وتقديم خدمات صحية متكاملة تحمي حياة النساء وتقلل من المخاطر المرتبطة بالإجهاض غير الآمن. في المقابل، تفرض بعض الدول الأوروبية، مثل بولندا ومالطا، قيوداً صارمة على الإجهاض، مما يعكس القيم الدينية والاجتماعية المحافظة التي تعتبر الإجهاض غير أخلاقي إلا في حالات استثنائية مثل إنقاذ حياة الأم أو في حالات الاغتصاب أو التشوهات الجنينية. في بولندا، ينص قانون حماية حياة الإنسان على أن الإجهاض يُسمح به فقط في حالات الخطر على حياة الأم، تشوهات خطيرة للجنين، أو الحمل الناتج عن جريمة اغتصاب أو سفاح القربى. وفي مالطا، يُعتبر الإجهاض محظوراً تماماً بموجب قانون العقوبات المالطي.
على الجانب الآخر، تعتبر قضية الإجهاض في العالم العربي موضوعاً أكثر حساسية وتعقيداً، حيث ينعكس ذلك في الأطر القانونية التي تتبنى موقفاً محافظاً. في معظم الدول العربية، مثل سوريا والسعودية ومصر، يُعتبر الإجهاض غير قانوني باستثناء حالات الخطر على حياة الأم. في سوريا، يُنظم الإجهاض بموجب قانون العقوبات السوري رقم 148 لعام 1949، حيث تنص المادة 525 على أن “كل من أقدم بأي وسيلة كانت على إجهاض امرأة برضاها عوقب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات، وإذا نجم عن الإجهاض موت المرأة، فالعقوبة تكون الأشغال الشاقة المؤقتة من خمس إلى عشر سنوات.” بينما تعفي المادة 528 المرأة من العقوبة إذا ثبت أن الإجهاض تم للحفاظ على حياتها أو صحتها بموجب تقرير طبي مصدق.
في مصر، يُنظم الإجهاض بموجب قانون العقوبات المصري رقم 58 لعام 1937، حيث تنص المادة 262 على أن “كل من أجهض امرأة حبلى بغير رضاها عوقب بالسجن المشدد، وإذا توفيت المرأة نتيجة الإجهاض، فالعقوبة تكون السجن المؤبد.” في السعودية، يُنظم الإجهاض وفقاً للمبادئ المستمدة من الشريعة الإسلامية، ويُسمح به فقط إذا كان يشكل خطراً واضحاً على حياة الأم.
ومع ذلك، تمثل تونس استثناءً في العالم العربي حيث تسمح بالإجهاض حتى الأسبوع الثاني عشر من الحمل بناءً على طلب المرأة، بموجب القانون عدد 73 لسنة 1973 المؤرخ في 11 نوفمبر 1973، الذي ينص على أن “النساء يمكنهن إجراء الإجهاض حتى الأسبوع الثاني عشر من الحمل دون الحاجة إلى تبرير.” وهذا يعكس توجهاً نحو الاعتراف بحقوق المرأة في اتخاذ قرارات صحية تتعلق بجسدها.
تؤثر الأديان بشكل كبير على المواقف تجاه الإجهاض. في الإسلام، يُسمح بالإجهاض في حالات الضرورة فقط، مثل إنقاذ حياة الأم، بينما تُعتبر التعاليم الكاثوليكية المسيحية الحياة مقدسة منذ لحظة التلقيح، مما يجعل الإجهاض غير مقبول أخلاقياً. هذه المواقف الدينية تعكس تأثير القيم الثقافية التقليدية التي ترفض التغيير وتتمسك بالأعراف المرتبطة بالأسرة والأمومة. بالإضافة إلى التأثيرات الدينية، تلعب المعايير الثقافية دوراً كبيراً في تحديد موقف المجتمع من الإجهاض. في العالم العربي، تُعتبر الأعراف المتعلقة بالشرف الأسري والحياة الجنسية للإناث ذات تأثير قوي، مما يجعل من الصعب أحياناً على النساء الحصول على الإجهاض الآمن خوفاً من العواقب الاجتماعية أو نقص الدعم الأسري. كما أن نقص التثقيف الجنسي ووسائل منع الحمل الحديثة يزيد من حالات الحمل غير المقصود بين الشابات، مما يدفعهن إلى اللجوء إلى عمليات الإجهاض غير الآمنة.
تشريع الإجهاض في بعض الدول يأتي من منطلق حماية حقوق المرأة والصحة العامة، حيث يُعتبر الإجهاض الآمن جزءاً من الخدمات الصحية الأساسية التي تضمن تقليل الوفيات والمضاعفات الناتجة عن الإجهاض غير الآمن. تؤكد الاتفاقيات الدولية، مثل اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW)، على أن حقوق الصحة الإنجابية جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان، وتدعو إلى ضمان حصول النساء على خدمات الصحة الإنجابية الآمنة. ورغم أن هذه الاتفاقيات لا تنص صراحة على الحق في الإجهاض، إلا أنها تبرز أهمية احترام حقوق المرأة في الحصول على رعاية صحية ملائمة.
تشير الإحصائيات إلى أن الإجهاض غير الآمن يشكل خطراً كبيراً على حياة النساء في البلدان التي تفرض قيوداً على الإجهاض. يؤدي ذلك إلى تعرض النساء لمضاعفات صحية خطيرة مثل النزيف والعدوى والعقم، وقد يتسبب في حالات وفاة. وتُعد منظمة الصحة العالمية أن الإجهاض غير الآمن هو أحد الأسباب الرئيسية للوفيات المرتبطة بالحمل في البلدان التي تحظر الإجهاض.
يظل الإجهاض قضية معقدة ومتعددة الأبعاد، حيث تتداخل فيها الجوانب القانونية والدينية والاجتماعية. تحتاج المجتمعات إلى معالجة هذه القضية من منظور شامل يأخذ في الاعتبار حقوق المرأة واحتياجاتها الصحية، بالإضافة إلى المواقف الثقافية والدينية. تتطلب هذه النقاشات فهماً عميقاً للتحديات المرتبطة بالإجهاض والعمل على تحقيق توازن يحترم حقوق الجميع ويضمن العدالة والمساواة في المجتمع. وبينما تسعى بعض الدول إلى تعزيز حقوق المرأة من خلال تشريع الإجهاض وضمان توفيره بشكل آمن، تظل العديد من المجتمعات متشبثة بالقيم التقليدية التي ترى في الإجهاض تهديداً للنظام الاجتماعي والأخلاقي. في نهاية المطاف، يتطلب تحقيق تقدم حقيقي في هذا المجال حواراً مفتوحاً وتفاهماً متبادلاً بين مختلف الثقافات والتقاليد، مع الالتزام بحماية حقوق الإنسان وصحة المرأة.