fbpx

الأمومة قيدٌ أم معنى؟ قراءة في الروايات النسوية العربية المعاصرة

0 40

في خضم التحوّلات الاجتماعية والثقافية التي تشهدها المجتمعات العربية، تبرز الرواية النسوية كمرآة تعكس تعقيدات الواقع وتناقضاته، وتفتح نافذة على عوالم المرأة الداخلية وصراعاتها مع الذات والمجتمع. ولعلّ من أكثر القضايا إثارة للجدل في هذه الروايات تلك المتعلقة بالأمومة، التي تتأرجح بين كونها قيداً يُكبّل حرية المرأة وطموحاتها، وبين كونها معنى وجودياً يمنحها هوية وامتداداً في الزمن.

جدلية القيد والمعنى

تتناول الروايات النسوية العربية المعاصرة الأمومة بطرق متباينة، تعكس تنوع التجارب النسائية وتعددها. فبينما تصورها بعض الروايات كقيد اجتماعي وبيولوجي يحدّ من حرية المرأة وخياراتها، تراها روايات أخرى معنى وجودياً عميقاً يمنح الحياة قيمة وامتداداً. وبين هذين القطبين، تتحرك الكتابة النسوية العربية في مساحة رمادية تعترف بتعقيد التجربة وتناقضاتها.

في الرواية السعودية، تُبرز قماشة العليان في (أنثى العنكبوت) صورة الأمومة كقيد مجتمعي يتداخل مع منظومة القيم التقليدية التي تحصر المرأة في دور الأم والزوجة. لكنها في الوقت نفسه تكشف عن الأمومة كمصدر قوة وصمود في وجه القهر الاجتماعي. هذه الازدواجية تعكس واقع المرأة العربية التي تعيش في مجتمع يُقدّس الأمومة كوظيفة بيولوجية واجتماعية، لكنه يُهمّش المرأة كذات مستقلة لها طموحاتها وأحلامها.

وفي المشهد اللبناني، تُقدم علوية صبح في (افرح يا قلبي) صورة مغايرة للأمومة، حيث تتجاوز ثنائية القيد والمعنى لتصبح الأمومة فضاء للمقاومة والتحدي. فالأم في روايتها ليست مجرد كائن مستلب يخضع للأدوار التقليدية، بل هي ذات فاعلة تستمد من أمومتها قوة لمواجهة الظروف القاسية والتحديات الاجتماعية.

الأمومة في سياق الحرب والنزوح

تكتسب الأمومة في الروايات النسوية العربية بُعداً آخر حين تتقاطع مع تجارب الحرب والنزوح والاحتلال. ففي روايات سحر خليفة الفلسطينية، تتحول الأمومة إلى رمز للصمود والمقاومة، وتصبح الأم حارسة للذاكرة والهوية في مواجهة محاولات الطمس والتهجير. وفي (ربيع حار)، تتجاوز الأمومة كونها تجربة شخصية لتصبح تجربة جمعية ترتبط بالأرض والوطن.

وفي السياق السوري، تُقدّم سمر يزبك في “رائحة القرفة” صورة للأمومة عبر ثلاثة أجيال من النساء، لتكشف عن التحولات التي طرأت على مفهوم الأمومة في ظل التغيرات السياسية والاجتماعية. فالأمومة هنا ليست تجربة ثابتة، بل هي تجربة متحولة تتأثر بالسياق التاريخي والاجتماعي.

الأمومة والإبداع: صراع أم تكامل؟

من القضايا المحورية التي تطرحها الروايات النسوية العربية المعاصرة العلاقة الإشكالية بين الأمومة والإبداع. فهل الأمومة عائق أمام الإبداع النسوي، أم هي مصدر إلهام وتجديد؟ ففي المشهد المصري، تقدم ميرال الطحاوي في (الخباء) و(أيام الشمس المشرقة) صورة للأمومة في سياقات مختلفة: من البيئة البدوية التقليدية إلى فضاء المنفى والاغتراب. وتكشف رواياتها عن كيفية تأثير السياق الثقافي والاجتماعي على تجربة الأمومة، وكيف يمكن للمرأة أن تتفاوض مع هذه التجربة وتعيد تشكيلها وفق رؤيتها الخاصة.

الأمومة والهوية: جدلية الذات والآخر

تطرح الروايات النسوية العربية المعاصرة إشكالية العلاقة بين الأمومة والهوية، وكيف تُسهم تجربة الأمومة في تشكيل هوية المرأة وعلاقتها بذاتها وبالآخر. ففي روايات أحلام مستغانمي، تتداخل الأمومة مع الوطن والذاكرة، لتصبح الأم رمزاً للجزائر بتاريخها وثقافتها وهويتها المتشظية.

وفي (كونشيرتو قورينا إدواردو) لنجوى بن شتوان، تتجلى الأمومة كفضاء للبحث عن الهوية في ظل التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها ليبيا. فالأمومة هنا ليست مجرد دور بيولوجي واجتماعي، بل هي تجربة وجودية تتقاطع مع أسئلة الهوية والانتماء.

إنّ قراءة الروايات النسوية العربية المعاصرة تكشف عن تعقيد تجربة الأمومة وتعدد أبعادها. فالأمومة ليست قيداً مطلقاً ولا معنى مطلقاً، بل هي تجربة متحولة تتشكل وفق السياق الثقافي والاجتماعي والسياسي. وتُسهم هذه الروايات في تقديم فهم أعمق وأكثر تعقيداً للأمومة، يتجاوز الصور النمطية والتبسيطية. ولعل أهم ما تقدمه هذه الروايات هو إعادة تعريف الأمومة من منظور نسوي، يعترف بتناقضاتها وتعقيداتها، ويرى فيها تجربة إنسانية غنية تستحق الاحتفاء والتأمل. فالأمومة، كما تصورها هذه الروايات، ليست مجرد وظيفة بيولوجية أو دور اجتماعي، بل هي تجربة وجودية تتقاطع مع أسئلة الهوية والحرية والمعنى.

وفي النهاية، تدعونا هذه الروايات إلى تجاوز ثنائية القيد والمعنى، والاعتراف بأن الأمومة يمكن أن تكون قيداً ومعنى في آن واحد، وأنَّ المرأة يمكنها أن تتفاوض مع هذه التجربة وتعيد تشكيلها وفق رؤيتها الخاصة، وهذا هو جوهر الرؤية النسوية للأمومة: “الاعتراف بحق المرأة في تعريف تجربتها الخاصة وعيشها بحرية وكرامة“.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني