fbpx

الأبناء والدولار.. أحاديث العجائز أمام أبواب البيوت

0 387

تجلس “أم علي” 51 عاماً في شرفة منزلها في المنطقة الشرقية لقامشلو، تترقب المارة وتتحدث إلى من تعرفهم فتقول لـ نينار بريس “غادرني ابني إلى كوردستان، وتزوجت ابنتي إلى استراليا. بقي لدي ابنتي الأخرى التي تعمل في مؤسسات الإدارة الذاتية، لكن لا يكفينا راتبها وراتب والدها المدرس لدى مدارس الحكومة السورية” وتُخرِج الخمسينية هاتفها الجوال لتُسمعنا صوت ابنها “أمي أرسلت لكم 150$ كمساعدة، لا أعلم متى يُمكنني الإرسال مرة أخرى” تغلق الهاتف وتنهض بحثاً عن دخانها الذي تقول إنها لجأت إلى النوع غير ممتاز بسبب غلاء سعر دخانها المعتاد “يا سيّدي لن أترك التدخين، نحن فقراء، أبنائي في الخارج، والحيّاة متعبة لدينا، لن يؤثر الدخان على ميزانية بيتي، ابني يرسل مصروفي”
تجتمع العجائز في أحياء مدينة قامشلو، بشكلٍ يومي، يتبادلن الأحاديث التي حصلت أو التي ليس لها وجود. يعتمدن على ما تسعفهن به الذاكرة من سرديات تاريخية، أو مرويات حول قصص وروايات تتعلق بمدينتهن والطقوس العائلية والأعياد والعمران الذي زحف بشكل كبير إلى المدينة منذ بضع سنوات أكثر من السنوات التي سبقت الحدّث السوري.
وبعد تقنية الإنترنت، والهجرة الجماعية لمئات الآلاف من الشباب والعوائل إلى مختلف دول اللجوء، تاركين ورائهم أمهاتهم اللواتي تغلبت عليهن عاطفة الأمومة، فاقتنت العجائز أجهزة موبايل حديثة تحتوي على تقنية الصوت والصورة. كما تقول أم أحمد من حيّ الآشورية “أمومتي غلبت الأنانية، وافقت على سفر أبنائي الأربعة، هرباً من الموت بسبب الحرب، أشتاق إليهم دوماً، أرسل إلي ابني الصغير جوان مبلغ 200$ لأشتري هاتفاً، ادخرت منها قليلاً، وحصلت بالباقي على هاتف أشاهد أبنائي عبره، أنا سعيدة جداً”
ونتيجة للحرب الدائرة في سوريا، والمنطقة الكوردية، فإنها أثرت بشكل كبير على مجريات الحياة بمختلف مجالاتها، وخاصة هجرة الأسر والعوائل، وبشكل أخص الشباب منهم، ما انعكس سلباً على طبيعة حياة كبار السّن، خاصة مشكلة تأمين المستلزمات الحيّاتية والمعيشية. كحال حسان المحمد 67 عاماً الذي يقول “شجعت ولداي للسفر إلى أوربا، انتهت الحيّاة هنا، لا أمل في مستقبل مشرق، لكنني أواجه صعوبة في تأمين مستلزمات المعيشة، طلبت مساعدة أحد المارة ليحمل جرة الغاز إلى الطابق الأول، حقيقة نحن نعاني من حمل بضع كيلوغرامات نتيجة تقدمنا في العمر”
لكن اللافت للانتباه، جلسات العجائز منذ الصباح حتى فترة الظهيرة، ثم عودتهم بعد الغداء للجلوس مجدداً حتى المغرب. في ذلك تقول السيدة “خنساء البدري” لصحيفة نينار برس “أتحدث إلى جاراتي، أشكو إليهم تجاهل أبنائي ليّ ولوالدهم، لدّي ولدان أحدهما يقيم في ألمانيا، والآخر في هولندا، وبنت في النمسا، ولداي لا يرسلان مصروفاً لنا، نعيش على الراتب التقاعدي، وبعض المدخرات، نكاد نموت جوعاً، وحدها ابنتي ترسل إلينا شهرياً100$” كما رغبت “أم عائشة” من أهالي ريف حلب الحديث إلى نينار برس فتقول “نزحنا إلى هنا منذ ستة أعوام، أبنائي يعملون في مهن مختلفة، الفقر شديد هنا، انخفاض الليرة السورية أمام الدولار أنهكنا، نتدبر أمورنا بشكل عسير، لا منظمات أو هيئات تساعدنا، الحياة اليوم تشبه الموت البطيء، أو من يشاهد عزيزاً عليه يلفظ أنفاسه الأخيرة”.
يستمر يوم العجائز على هذه الوتيرة. ما إن يغادر أزواجهن أو أبنائهن إلى أعمالهم حتّى يجتمعن. وبمجرد تناول العائدين من العمل وجبة الغداء والقيام ببعض الأعمال المنزلية حتى يسارعن إلى الاجتماع مجدداً. كحال “وداد الخالدي” 52 عاماً التي حصلت على رسالة صوتية في المجموعة الخاصة بنساء الحارة فتقول: أنا أفهم قليلاً بالهواتف والإنترنيت، حيث درست حتى الصف السادس الابتدائي، وأصر جدّي أن أخرج من المدرسة. قمت بإنشاء مجموعة دردشة على الواتس وأسميتها “جميلات الحارة” ولأن غالبية من معنا في المجموعة لا يجيدون الكتّابة، علمتهم كيفية إرسال رسائل صوتية، حيث نتفق على موعد ومكان للاجتماع، نصطحب معنا البزر والماء، وكل يأتي بقطعة أسفنجه للجلوس معاً” وقبل الخروج معاً، إلى حيث ستلتقي العجائز قالت وداد: “أغلبنا قبل أن نتحدث، نخطط مسبقاً، خاصة في الحديث عن علاقتنا مع أزواجنا أو أبنائنا وحمواتنا، حيث يصرون على أنهن كنَّ جيدات ووالدة الزوج هي الشريرة والقبيحة، وإنهن كنَّ يتحملن كل شي حباً بأزواجهن”
نزلنا سويّةً صوب المكان المنشود. حيث الكراسي قصيرة الساقين، والمدات الأسفنجية، الماء وبعض الأطعمة الخفيفة. تقول أصغرهم سناً “فادية الفرج” 44 عاماً “أرغب بالأركيلة، هؤلاء المتخلفات لا يقبلن، يعتبرونها عيباً. بناتهن يدخن الأركيلة في المطاعم، ثم يقلن إنها لا تجوز. فتيات اليوم محظوظات، الثياب الأنيقة الحديثة وأجهزة الموبايل والمكياج الحديث. لكن للأسف الحرب قضت على أحلامهن، ولم يبق لهن من يمكن أن يكونوا فرسان أحلامهن. إنها الحرب ولا أبشع منها” في تلك الأثناء اتصل شابٌ يُدعى “أمير” 27 عاماً، عبر خدمة الواتس آب، بوالدته طالباً منها تزويجه لترد عليه أم أمير “بني أرسل إلينا الأورو لأقوم بتزويجك، لا أموال لدينا” قبل أن يقاطع الابن “ماما أعلم ذلك جيداً، وسأرسل ما تحتاجينه” لتبدأ بعدها العجائز بسرد مناقب وخصال وصفات الفتيات اللواتي يعرفونهن ويرغبن بإرسالهن إلى أوربا زوجة لأمير.
تقطع ضحكة “أم علي” الضجيج والحديث المتشابك الذي لم نكد نتلمس شيئاً منه، لصعوبة التركيز بسبب التداخل الكبير والحديث الجماعي.التفتت جميع النسوة إلى أم علي لمعرفة سبب ضحكتها الهستيرية، بدورها أم علي لم ترغب في إبقاء الحيرة على وجههن لتقول “منذ عامين وابنتي لم تتمكن من اللحاق بخطيبها في النمسا، ناهيكم بالضرر الذي سيلحق بنا نتيجة سفرها وتركها العمل، فالأمور لم تعد كما كانت، ولمُّ الشمل لم يعد سهلاً، وساهمت الجائحة في تعقيده أكثر”
لا تخلو جلسات كبار السن من الفائدة، أو الضحك والتسلية. لكنها في عمقها خلاصة للمراحل العمرية السابقة. حسان، أم علي، فادية والأخريات، يجسدن صخب الحيّاة وتعاستها وبؤسها في أسوأ المراحل العمرية، بدأت الحرب لتقضي على آمالهم في رؤية أبنائهم يتزوجون وينجبون لهم أحفاداً، ثم جائحة كوفيد19، لتنهي الحيّاة تقريباً.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني