افضح متحرشاً
يستعرض المحتوى الفيسبوكي العربي بعض ظواهر التحرش والاغتصاب والاعتداء اللفظي والجسدي، الممارس على النساء والأطفال، ما يعتبر نجاحاً في نقل هذه الظواهر البغيضة من السر إلى العلن، كخطوة ضرورية في مسار القضاء على الظاهرة وإقرار وتنفيذ القوانين التي تجرم وتعاقب مرتكبي هذه الجرائم. لكنه مسار طويل في دولنا الرثة التي يغيب عنها مفهوم القانون والسلطة القضائية، لدرجة يكاد ينحصر دورهما في ملاحقة المتهكمين والمعارضين على سياسات الحكومة والنظام المسيطر فقط، ما أفقد مجتمعنا العربي ثقته بهما وبقدرتهما على حمايتنا من أي خطر داخلي أو خارجي، ومنه خطر المتحرشين والمعتدين.
فعلى الرغم من عجزنا الراهن عن تحويل هذه القضايا إلى ملفات قضائية ينظر فيها قضاء عادل ونزيه ومستقل عن أية سلطة مالية أو سياسية أو اجتماعية، إلا أن فعل الفضح الإلكتروني الحاصل ذو نتائج كبيرة ومهمة على المستويين التوعوي والوقائي والدفاعي، كونه يكسر بفضحه المتحرشين واحدة من أعقد القضايا المحظورة إعلامياً، بحكم مراعاة الإعلام لجملة من المفاهيم الاجتماعية البالية، وبحكم بعض الحسابات السياسية التي تتوجس من ربط هذه الظواهر السلبية بمسببها السياسي، أي بمسؤولية النظم الحاكمة وتقصيرها وفسادها وربما بتورطها بحوادث مشابهة. طبعاً لا يخلو هذا الفضح من بعض النواحي السلبية التي تصعب معالجتها الآن، لأنها مسؤولية السلطة السياسية التي فشلت أو ربما تعمدت إهمال هذا النوع من القضايا، كما تجاهلت تطوير القوانين وبناء قضاء مستقل ونزيه وعادل عموماً.
إذاً فقد كسر وسم “افضح متحرشاً” وما شابهه، الحظر في تناول هذه الجرائم، لينجح في تسليط الضوء عليها وفرض نقاشها بكل جرأة ووضوح، كاشفاً عن عشرات وربما مئات القصص المخفية والمخيفة المستندة لوقائع تحرش وتعدي من قبل أشخاص بعضهم معروف لنا، فضلاً عن كشفه فداحة وبشاعة هذه الجرائم، كما نجح في عرض بعض تأثيراتها السلبية على ضحاياها. وهو ما تحول بشكل محدود إلى شكل من أشكال الوقاية المتأتية من كشف اللثام عن بعض مرتكبي هذه الجرائم البغيضة، وهو ما سوف يحمي عشرات وربما مئات الضحايا المحتملين لولا فعل الفضح الممارس إلكترونياً اليوم.
أي، لقد تحول فضح المتحرش من ضرورة نفسية ووجدانية تساعد الضحايا على التحرر من تبعات الجريمة المرتكبة بحقهم، إلى نشاط مجتمعي يمنح الضحايا أملاً بقدرتنا على محاسبة المعتدين ولو على الصعيد الإعلامي مبدئياً، كما يعبر عن قدرة هذه الممارسة في تقليل حجم خسائرنا المجتمعية، عبر حماية من لم يقع حتى اللحظة في براثن هؤلاء المجرمين. ويساهم تداول هذه التجارب الشخصية المؤلمة لضحايا هذا النوع من الجرائم القذرة، في توعية المجتمع وخصوصاً نسائه بوسائل الدفاع الذاتية ولو بحدها الأدنى على الصعيد النفسي، كي تتحرر النساء المتعرضات لهذه الجرائم من عقدة الذات، التي تدفعهن إلى تحميل ذاتهن مسؤولية ما مارسه المجرمون بحقهن وبحق المجتمع، وكأنهن هن الملامات على هذا الفعل الشيطاني. حيث يوضح التدقيق في مجمل القصص المتداولة بهذا الخصوص، على أن المسؤول الأول والأخير فيها هم المتحرشون والمعتدون جسدياً وجنسياً، فلا تأثير يذكر لرداء المرأة أو شكلها أو دورها الاجتماعي أو حتى مكانتها ومستوى تعليمها، كما لا تأثير يذكر لطبيعة العلاقة بين المعتدي والمعتدى عليها أو عليه، فقد يكون المعتدي أباً أو أخاً أو زوجاً؛ كما قد يكون صحفياً لامعاً؛ وربما سياسياً رفيع المستوى؛ وفي أحيان قد نعرفها جيداً قد يكون معلماً أو طبيباً.
بينما تعود أسباب هذا الفعل المدان إلى شقين إحداهما قانوني وإجرائي، يتعلق بتسامح القانون ومطبقوه مع العديد من الجرائم المرتكبة تحت ذرائع واهية وبغيضة، مثل “الدم ما بصير مي”، “التكتم على الفضيحة” و”صلح خطأك” وغيرها العديد من الأمثال الشعبية التي تغدو بمثابة قانون في هذه القضايا، والتي غالباً ما تكون بمثابة جريمة جديدة على ذات الضحية للأسف، تتيح للجاني ترف التهرب من تحمل مسؤوليات أفعاله الشنيعة بل واستمرارها. أما الشق الثاني فهو نفسي وتربوي، فغالباً ما يعاني الجناة من أمراض نفسية متعددة لكنها لا ترقى لمستوى تبرئتهم أو حتى التقليل من مسؤوليتهم الفردية عما اقترفوه، بقدر ما تعكس قدرة الأسرة والمجتمع؛ عبر المختصين طبعاً؛ على معالجة بعض هذه النواحي لو تمت متابعتها في مراحل مبكرة. وهو ما ينقلنا إلى الخلل الأسري الذي عادة ما يتستر على مقدمات هذه الجرائم منذ الصغر لتجنب الفضيحة أو لاعتبارها مكون ذكوري طبيعي. لذا نلحظ صمتاً أسرياً على مئات التعديات بحق سائر أو جزء من أفراد الأسرة الواحدة، كتكريس السلطة الذكورية داخل الأسرة، سلطة الأخ والأب على الأنثى بغض النظر عن فرق العمر والوعي والتعليم، سلطة تتحول في بعض الأحيان أو ربما في الكثير منها إلى ما يشبه النظام العبودي، الذي يجبر العبد “النساء في حالتنا” على خدمة السيد الأبيض “الذكر” بكل طاعة وإحسان وصمت بل وخنوع أيضاً. مروراً بأشكال أقل هيمنة كتحكم الرجل أو الذكر بقرارات الأنثى التعليمية والمهنية والشخصية كالملبس واختيار الزوج، بحكم تراتبية هرمية تضع الذكر بموقع الأقدر والأحق والأعلم أو بالحقيقة تضعه بموقع السيد بغض النظر عن بلاهة ما قد يتفوه به.
بكل الأحوال ما يعنينا الآن من كل ذلك هو تحديداً مسؤوليات المجتمع والدولة في استمرار هذه الكوارث، بغرض الوصول إلى مجتمع ودول خالية من هذه الجرائم المروعة، والتي تبدأ بمسؤولية السلطة السياسية التي فشلت بحماية الضحايا قبل وقوع الجريمة لتهاونها في تطبيق النصوص القانونية الموجودة، ولتقصيرها في إلغاء القوانين التي تتستر على هذه الجرائم وإقرار قوانين أكثر صرامة وشمولية وعدالة بخصوصها. وأيضاً تتحمل السلطة السياسية مسؤولية عجزها في توعية المجتمع، وتهربها من تحويل نظرة المجتمع للضحية وللجاني كي يدين الجاني وينتصر للضحية دون أية مقدمات أو اعتبارات. وهو ما يوصلنا إلى مسؤولية المجتمع فردياً وجماعياً، في تكريس منطق وسلطة فوقية ذكورية الطابع تبرر للجاني أخطاءه وتحمل مسؤوليتها للضحية بأي ذريعة كانت. فهل ننجح قريباً في تحويل وسم “افضح متحرشاً” إلى فعل مجتمعي قادر على خلق بنية سياسية وقانونية واجتماعية تقاوم هذه الظواهر الشنيعة وتنهيها؟
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”