fbpx

استدعاء التراث الشعبي في الشعر العربي المعاصر

0 326

تعد اللغة صورة صوتية وفكرية للمجتمع – لأنها مأخوذة من المجتمع – بكل عناصره كما أحسها أفراده وعاشوها، إذ إن ألفاظ اللغة ما هي إلا أسماء لما في الواقع من أشياء، ولما يجري فيه من أحداث تفاعل معها الإنسان فاحتاج للتعبير عنها، ومن ثم فإن اللغة تحمل في طيات ألفاظها وعباراتها ملامح حياة المجتمع الذي يتكلمها وآثار البيئة التي ولدت فيها، لهذا كانت اللغة تراثاً قومياً لأهلها.

ومن ثم “ربط اللغويون والنحاة بين اللغة الخاصة وبين الكفاءة المميزة لدى الشعراء، ذلك أن هذه اللغة المتحققة في الخطاب الشعري ليست إلا اختياراً من بين ممكنات تتنوع عن اللغة المثالية، والشاعر – بدوره – يعمل على استغلال البنيات التي تحقق مراميه الدلالية”.(1) 

وعلى أساس من هذه المقدمات كان لجوء الشعراء المعاصرين إلى استدعاء التراث الشعبي وتوظيف رموزه ودلالاته الثرية الإيحاء والتعبير عن ملامح الرؤية، وإبراز أبعاد التجربة في لغة بسيطة يفهمها العامة ويستمتع بها الخاصة، ومن ثم استفاض شعر الحقائق اليومية وفتاتها وكان أغلبه حول الفلاحين والبسطاء من الناس وحياتهم البائسة، وقد حمل هذه الأمانة جيل الرواد أمثال: صلاح عبد الصبور وحجازي والفيتوري وحسن فتح الباب ومجاهد عبد المنعم… وغيرهم. 

هذا وقد تعددت طرائق استدعاء التراث الشعبي في الشعر العربي المعاصر ما بين الأمثال الشعبية وتضمين العادات والتقاليد، إلى استخدام مفردات وتعابير لغة الحياة اليومية، إيماناً منهم بأن لغة الحديث اليومي بكل دلالاتها وإيحاءاتها هي لغة الشعر، وأن الكلمة الشعرية هي الكلمة التي تعيش بيننا لا الكلمة المحفوظة في صفحات المعجم.

يأتي استلهام الشعراء للأمثال الشعبية والتعبيرات المثلية التي تعتمد في بنيتها الدلالية على ما يتضمنه المثل من معانٍ، وقد تنبنى هذه التعبيرات على جزء من المثل أو إيحاء إلى فحواه؛ لذا فهذه التعابير ليست إلا إبرازاً للمثل في صورة تعبيرية دلالية يراد لازم معناها.

يقول “حسن فتح الباب”:

الشاطئ وعيون الأطفال..

تنتظر العائد من سوق البندر

ليوفي ما وعد الأحباب 

ما أغلى إرث الأجداد

لكن الرزق يحب خفيف الخطو..(2) 

يبدو واضحاً في السطر الأخير من هذه المقطوعة استدعاء الشاعر للمثل الشعبي القائل “الرزق يحب الخفيّه”، والذى يضرب – عادة – لترغيب الناس في السعي وبذل الجهد من أجل تحصيل الرزق، وتوفير لقمة العيش التي تستلزم العمل والسير في دروب الحياة المتشابكة، وقد اتخذ الشاعر من هذا المثل دعامة أساسية لتأكيد دلالة النص، فضلاً عن تأصيل الفكرة وتوشية النص بإضفاء مسحة جمالية تراثية على صياغته، وبلورة هذه الصياغة في رؤية شعرية عميقة من خلال المزج بين الماضي والحاضر مزجاً يثير المتلقي ويدفعه إلى المقارنة بين الوقائع المتشابهة في أزمنة مختلفة.

وفي إطار استدعاء التراث الشعبي يأتي توظيف الألفاظ العامية المتداولة في لغة الحياة اليومية، لما لها من قدرة على التغلغل في نفس المتلقي بعمق دلالتها وسهولة استخدامها، ومن ثم كان اتجاه الشعر المعاصر إلى اللغة الشعبية يستوحي من تعبيراتها ما يعينه على صدق التصوير ودقة الأداء من خلال عباراتها البسيطة “وليست البساطة التعبيرية بسهلة، بل هي من الصعوبة بمكان، ولا يقدر عليها إلا الفنان القدير، فليست كل بساطة محمودة، فقد تكون سطحية ضحلة وقد تكون عميقة، ولا تعد عنصراً فنياً إلا إذا أدت إلى تجربة منظمة ناضجة”.(3) 

إن الشاعر يلتقط فتات الواقع اليومي لتكوين بنية فنية دلالية متميزة، تمتزج في بوتقتها تعبيرات مألوفة وبسيطة، لكنها في ترابطها تشكل لوحة فنية ثرية الإيحاء، يقول صلاح عبد الصبور في قصيدته “الحزن”: 

يا صاحبي، إني حزين

طلع الصباح، فما ابتسمت، ولم ينر وجهي الصباح

وخرجت من جوف المدينة أطلب الرزق المتاح 

وغمست في ماء القناعة خبز أيامي الكفاح

ورجعت بعد الظهر في جيبي قروش

فشربت شاياً في الطريق 

ورتقت نعلي 

ولعبت بالنرد الموزع بين كفي والصديق

قل ساعة أو ساعتين

قل عشرة أو عشرتين(4) 

الشاعر يقدم صورة لحياة بسيطة، ينطلق صاحبها في الصباح يلهث وراء لقمة العيش ويقضي أصيلها في اللهو، والابتعاد عن جوهر الحياة، كل ذلك مقدمة لأحزان الليل التي لا يستطيع الإنسان في وحدته الهروب منها، في هذه القصيدة تتردد كلمات مثل: قروش، شاي، رتقت، نعلي، لعبت النرد، عشرة أو عشرتين، فهذه كلمات جديدة علي المتلقي لم يعهدها من قبل في الشعر، وهو ما يسمى “بالجسارة اللغوية” التي أخذها الشاعر عن توماس إليوت، فهذه الأسماء مأخوذة من أفواه الناس، وهي تتميز بالبساطة والوضوح وقد استخدمها الشاعر ليرسم لنا الصورة بكل تفاصيلها، وليعبر لنا بدقة عن كفاح الإنسان وشقائه من أجل الحصول علي لقمة العيش.

وفي مواضع أخرى يستدعي الشعر المعاصر كثيراً من التعابير الشعبية، لكن هذه المرة يوظفها في سياق دلالتها الأصلية، وإن اختلفت صياغتها قليلاً، ومن ذلك قول فدوى طوقان في قصيدة “الفدائي والأرض”: 

يا ولدي

يا كبدي

من أجل هذا اليوم

من أجله ولدتك

من أجله أرضعتك

من أجله منحتك

دمي وكلّ النبض

وكلّ ما يمكن أن تمنحه أمومة

يا ولدي، يا غرسةً كريمة

اقتلعت من أرضها الكريمة

اذهب، فما أعزّ منك يا

بنيّ إلاّ الأرض(5) 

في المقطع السابق تتضح لنا مكانة الأرض في قلب الشاعرة ما جعل عواطفها تجاه الوطن في نمو عبرت عنه عبر ثلاثية: الوطن، الأرض، الأم، وترسم لنا فدوى طوقان في قصيدتها صورة رمزية لأم وابنها المناضل، فالحوار بينهما يعكس نظرة الشاعرة للوطن.

حيث استخدمت الشاعرة الطاقة الإيحائية التي يحملها التركيب العامي “يا كبدي” في صياغته الدارجة، كما لجأت إلى بعض التعبيرات الشعبية لتفصّحها، وإن ظلت بعد ذلك تستثير التعبير الأصلي، وذلك على نحو استلهام كلمة (يا ولدي) بدلاً من (يا بني)، و(من أجله ولدتك)، و(من أجله أرضعتك) حيث يتبادر إلى الذهن مباشرة التعبير العامي (عشان كده خلّفتك..) إذ تسعى للاقتراب من لغة الواقع وتبسيط اللغة الشعرية؛ للإيحاء بمنزلة الابن لدى الأم، لكنه ليس أعز عليها من أرضها، لتضحي في سبيلها بكل عزيز وغالٍ، وهل أغلى من الابن شيء؟

بهذا تحاول الشاعرة الاستجابة لروح العامة، والتعاطف معهم من خلال التعبير عن واقعهم والتحدث بلغتهم، رغبة في الوصول إلى أعماقهم عن طريق خلق الاستجابة الموحدة ذلك أن “بعض الكلمات تصنع عالمها الخاص، وتثبت وجودها في صيغة بسيطة لا يمكن لمن يمر بها أن يتجاهل تاريخها”.(6) 

وهكذا نجد أن اعتماد الشاعر المعاصر على توظيف التراث الشعبي بمختلف أشكاله يشير إلى أنه أصبح أكثر وعياً بقيمة هذا التراث من الشاعر القديم الذي كان يظن بهذه الأنماط الشعبية ظن السوء، ومن ثم جاءت نظرته لها نظرة متعالية، غافلاً عما تحويه في أعماقها من أبعاد إيحائية كامنة في الوجدان الشعبي.

إن ارتباط الشاعر بواقعه يعكس حرصه على توظيف التراث الشعبي، الأمر الذى يسم تجربته بسمات الواقعية – إضافة إلى تعميق قنوات الاتصال بينه وبين المتلقي – الأمر الذي جعله يتجه إلى هذا التراث ينقب عن كنوزه الدفينة ليحيلها شعراً سائغاً يسعى من خلاله لتعميق قنوات الاتصال بينه وبين المتلقي، فضلاً عن أنها قد تكون الأقدر على كشف أعماق النفس الإنسانية.

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــ ـ ـ ـ

(1) مصطفي السعدنى: العدول “أسلوب تراثي في نقد الشعر”، منشأة المعارف، إسكندرية 1990 م، ص70

(2) حسن فتح الباب: الأعمال الكاملة، م 1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،1998م، ص 90-91

(3) مصطفي السحرتي: دراسات نقدية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1973م، ص 113

(4) صلاح عبد الصبور: ديوان الناس في بلادي، دار الشروق، 1957م، ص 66.

(5) ديوان فدوى طوقان: دار العودة، بيروت، لبنان 1998م، الجزء الأول، ص 509 

(6) صلاح فضل: نبرات الخطاب الشعري، ط1، دار قباء للطباعة والنشر، القاهرة، 1998م، ص84

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني