إلى أصدقائي الموتى الجالسين في القبور
هناك حيث تموت وأنت حي
حيث تصبح العتمة بيتك الوحيد
ويصبح الجدار من أقرب المقربين إليك
تسند ظهرك إليه
تعانقه أحيانا وتتحدث معه
هناك حيث تفرش جسدك لتنام عليه
حيث لا ظل لك سوى المستقبل المضيء
حيث تمشي وأنت لا تمشي
حيث ترى بأذنيك وتلمس عطر الورد
وتخرج روحك من “شرّاقة” الباب كل فجر
كي تتسكع في الحارات القديمة رغم الحصار
هناك يا صديقي
تصبح رقما من ثلاث وعشرين مليونا
ينتظرون ولادتك من جديد..
أيها الجنرال الصغير
عندما تنتهي الحرب
تتحول الأرواح إلى نواقيس
وصرخات النساء إلى أجراس
تتأرجح في أذن الأرض
عندما تنتهي الحرب
تتحول أصابع المعتقلين إلى نايات
وأصابع الأطفال إلى أقلام رصاص
ومحّايات
عندما تنتهي الحرب
تتحول الأقنعة إلى وجوه
والأحداق الشاخصة
إلى قناديل
تضيء دياجير
هذا العالم الموحش
عندما تنتهي الحرب
تتحول عظام الموتى إلى سلالم
وسواعد الأحياء إلى رافعات
ودموع الأمهات إلى غدير
فإلى أي شيء ستتحول أنت
أيها الجنرال الصغير؟!”
تُسمّونَهُ قبراً وأُسمّيْهِ مَزهريةْ
ما زلتُ كما تعرفونْ
أَعقِدُ يديَّ على صدري
مثلَ جسرٍ حجريْ
أستلقي على ظهريْ الأبديّْ
أَمُدُّ رجليَّ على راحتيْ
الترابُ يملأُ فميْ وعَينيّْ
والبسمةُ لا تفارقُنيْ..
لا أتكلمْ.. لا أرى وجوهَكمُ الغاليةْ…
لكنّي أَسمعُ كيف تتنفّسونَ فوقَ الترابْ
وأشعرُ بجذورِ الأُقْحُوانْ
وهي تمتصُّ الرطوبةَ منْ حَوليْ
ما زلتُ كما أنا
أنتظرُ أن يُشَيِّعَنيْ أهليْ كواحدٍ
من شهداءِ الحرية..
أنا الآنَ بعيدٌ عنكمْ، لا ترانيْ اْلعيونْ
قريبٌ منكمْ، لا تلمِسُنيْ الأصابعْ..
أبعدُ من كوكبِ الصَّمتِ أنا
وأقربُ من مِحرابِ الترابْ
تسمونَهُ قبراً
وأُسميْهِ أصيصَ وردْ
لن يوقظَني الفجرُ بعدَ اليومْ
ولن يعاتبَني المساءْ
تركتُ بين أيديْكم
كلَّ ما كان بيننا من مودةٍ ونُبلْ..
تركتُ أحلامي الصغيرةَ أمانةً لديكم
تركتُ حِصَّتي من زُرقةِ السماءِ والضوءْ.
وكلَّ ما أملِكُهُ من سنواتِ عمْريْ الباقيةْ
قدمتُهُ لكم..
تركتُ أصابعي الدافئةَ بين أصابِعُكم
كي أعيشَ بكم
فمن أجلِ ذلك كنتُ أعيشْ..
تركتُ كلَّ ما ورِثتهُ عن البشريةِ عبرَ القُرونْ:
المحبةَ والمعرفةَ والجمالَ والفنَّ والحريةْ..
تركتُ المطرَ يتلألأُ كالدمعِ فوق العُشبِ الأخضرْ
تركتُ أشعةَ الشمسِ مشرقةً هناك خلفَ الجبلْ
وشجرَ النُّوارِ وهو يزهرُ ويزدهرُ في الحَواكيرْ
نسيتُ القَباحةَ والخِسَّةَ البشريةْ
نسيتُ الخيانةَ والظلمَ والنذالةَ والكذبْ..
وحملتُ أجملَ الذكرياتِ عنكمْ
وغفرتُ لكم..
أنا الآنَ أحيا حياةً أخرى
بفراخِ الطيرِ أحيا
ببِذارِ القمحِ والحَبَقِ أحيا
بالياسمينِ يدورُ على بيوتِ الطينْ
يقرعُ نوافذَ الخشبِ العتيقةَ ويصرُخْ:
أنا بسمةُ الحزنِ يا ناسْ
هديةُ الفقراءِ والمحرومينَ والمشردينْ
أرسلني الربُّ خِصيصاً، كي أبتسمَ لكم
كي أحرُسَ أحلامَكم في الشُّرُفاتْ
وأنامُ في أَصيصِ الوردْ…
تسمونَهُ قبراً
وأُسمّيْهِ مَزهريةْ.
الشهداء ما زالوا يحرثون الأرض بأجسادهم
وتنسلّ أرواحهم عبر شقوق العتمة
إلى بيوتنا
تدخل في الزوايا والمرايا
ترتدي ثيابنا العتيقة
وتخرج برفقتنا إلى الضوء
واﻷمهات ما زلن يغرسن الأطفال
في الحقول
ويذرفن الدمع مع الغيوم
فوق مساكب الورد
وحدها الخيول الحبيسة
في زرائب هذا الليل الطويل
يطوي صهيلُها السهول
وحدها الخيول الحرة
تكبو..