fbpx

إعادة الإعمار في سوريا… استثمارات كبرى تحتاج إلى بيئة آمنة وتشريعات قانونية ضامنة

0 39

تُعدّ مرحلة إعادة الإعمار في سوريا واحدة من أكثر المراحل حساسية وأهمية في تاريخ البلاد الحديث، حيث تمثل نقطة التحوّل من واقع الحرب والدمار إلى أفق جديد من الاستقرار والتنمية المستدامة. فبعد أكثر من عقد من الصراع، لم تعد الحاجة فقط إلى إصلاح البنية التحتية، بل إلى إعادة بناء الإنسان والمجتمع والدولة بكل مؤسساتها، بما يضمن قيام دولة مستقرة سياسياً واقتصادياً وأمنياً، قائمة على المواطنة والعدالة والقانون.

إن أهمية إعادة الإعمار في سوريا تنبع من كونها حجر الأساس لأي استقرار دائم. فالدولة التي تعاني من انهيار في منشآتها الأساسية، ودمار في قطاعاتها الخدمية، وتراجع في مؤسساتها الإدارية، لا يمكن لها أن تستعيد استقرارها إلا عبر عملية شاملة لإعادة البناء، تنطلق من إعادة ترميم ما تهدّم، وصولاً إلى تحديث القطاعات التنموية الأساسية، مثل التعليم والصحة والزراعة والصناعة والخدمات. هذه العملية ليست مجرّد عملية هندسية أو مالية، بل مشروع وطني شامل يتطلب جهوداً مشتركة من مختلف مكونات الشعب السوري، بدعم دولي واستثمار مسؤول.

تشير التقديرات إلى أن سوريا بحاجة إلى ما لا يقل عن 400 مليار دولار أمريكي لإعادة إعمار ما دمرته الحرب. هذا الرقم الهائل لا يمكن تلبيته من الموارد الداخلية وحدها، بل يتطلب تدفق استثمارات ضخمة من الخارج، إلى جانب القروض والمساعدات الدولية. غير أن جذب هذه الاستثمارات الكبرى لن يكون ممكناً ما لم تتوفر بيئة آمنة ومستقرة، على الصعيدين الأمني والقانوني. فالاستثمار في دولة خارجة من صراع طويل يتطلب ضمانات حقيقية للمستثمرين، بدءاً من الأمن الميداني، ومروراً بضمان سلامة الأصول والعقود، وليس انتهاءً بوجود تشريعات واضحة وعادلة تحمي حقوق المستثمرين وتضمن في الوقت ذاته سيادة الدولة ومصالحها.

البيئة الآمنة لا تعني فقط غياب الاشتباكات المسلحة، بل تشمل أيضاً الاستقرار السياسي والمؤسساتي، ووجود نظام قضائي نزيه، ومناخ قانوني وتنظيمي شفاف. إذ لا يمكن لأي شركة استثمارية أن تُقدِم على ضخ أموال طائلة في مشاريع طويلة الأمد، ما لم تكن مطمئنة إلى وجود دولة قانون تضمن لها حقوقها، وتحترم تعهداتها، وتُتيح لها العمل ضمن إطار تنافسي منصف وواضح. كما أن البيئة المستقرة تعني تمكين الدولة من القيام بواجباتها الأساسية تجاه مواطنيها، وتقديم الخدمات بشكل متوازن وشامل، وهو ما ينعكس إيجاباً على مستويات المعيشة، ويخلق دورة اقتصادية متجددة.

وفي هذا السياق، تبرز أهمية وجود تشريعات قانونية جديدة تتناسب مع مرحلة ما بعد الحرب، وتُلبّي متطلبات التنمية وإعادة الإعمار، وتراعي مصالح مختلف الأطراف الوطنية. وهذه التشريعات لا يمكن أن تكون فاعلة وعادلة إلا إذا صَدرت عن برلمان انتقالي يمثل كل فئات ومكونات الشعب السوري، بما يعكس التعددية السياسية والعرقية والدينية في البلاد. فالتشريعات التي تصدر عن برلمان توافقي ستكون أكثر شرعية، وتحظى بثقة الشارع السوري، والمجتمع الدولي، والمستثمرين على حد سواء.

هذا البرلمان الانتقالي يجب أن يتولى مسؤولية وضع القوانين التي تنظم بيئة الاستثمار، وتحدّد آليات الرقابة والشفافية، وتضمن العدالة في توزيع الموارد والعوائد. كما يجب أن يُشرف على صياغة سياسات عامة تُوجّه عملية الإعمار نحو خدمة المجتمع السوري بأكمله، لا نحو تعزيز الامتيازات لمجموعة ضيقة من المستفيدين. وهنا، تأتي أهمية بناء المؤسسات الرقابية والإدارية على أسس الكفاءة والمهنية، بعيداً عن المحسوبيات والانتماءات الضيقة.

في الختام، يمكن القول إن إعادة الإعمار في سوريا ليست مجرد عملية مادية لإصلاح ما دُمّر، بل هي مشروع لبناء مستقبل جديد للبلاد. ولإنجاح هذا المشروع، لا بد من توفّر ثلاثة عناصر أساسية: أولاً، بيئة آمنة ومستقرة تُمكّن من استقطاب الاستثمارات؛ ثانياً، تشريعات قانونية حديثة وعادلة تصدر عن مؤسسات منتخبة تمثل الشعب؛ وثالثاً، إرادة سياسية وطنية تؤمن بالشراكة والتعددية والتنمية الشاملة. عندها فقط، يمكن لسوريا أن تنهض من رماد الحرب، وتبدأ مرحلة جديدة من التعافي والبناء الحقيقي.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني