إشكالية تموضع العلويين في التاريخ 3
في نهاية الحرب العالمية الأولى، وتطبيقاً لاتفاقية سايكس بيكو، دخلت القوات الفرنسية منطقة كيليكية والساحل السوري، وكان من نتائج ذلك اجتماع خصوم الأمس لمقاومة التدخل الأجنبي، وتلقت ثورتا صالح العلي وهنانو الدعم من قوات الاتحاد والترقي التركية في الشمال ومن قوات الملك فيصل في الجنوب، ما مكن حركتي التمرد هاتين من الصمود لأكثر من عامين (1918-1921).
مثلت ثورة الشيخ صالح العلي قفزة نوعية في الحضور السياسي العلوي الإقليمي آنذاك، مع أنها اقتصرت على مشاركة جزء صغير من العلويين، وخاصة عشيرة المتاورة التي تنتمي إليها عشيرة صالح العلي الصغيرة انتماء حماية. كان أبناء عشيرة المتاورة قد تمرسوا في القتال منذ ثورة إسماعيل خير بك وإنشائه حكومة الدريكيش (1854-1858).
في هذه المرة أيضاً واجه العلويون الانتداب الفرنسي الذي يُفترض أنه كان في مصلحتهم، كما بالنسبة لباقي الأقليات التي عانت من الاضطهاد العثماني. من غير المعروف إلى أي درجة تأثر العلويون باليقظة العربية للتحرر من الحكم العثماني، لكن الأكيد أن ثورة الشيخ صالح العلي استفادت من خيبة أمل الملك فيصل من حلفاء الأمس، الإنكليز والفرنسيين، في الحصول على دعم هذا الأخير.
والمرة الأولى التي أخطأ فيها العلويون كانت إبان حملة إبراهيم باشا على سورية أوائل القرن التاسع عشر، عندما رفضوا إصلاحاته العلمانية ووقفوا إلى جانب مضطهديهم العثمانيين. وفي الحالتين، كان تأثير عزلة العلويين وردّات فعلهم غير السياسية وتلاعب الآخرين بهم وراء عدم القدرة على فهم المصلحة التاريخية.
لم تكن ثورة الشيخ صالح العلي لتقوم لو تمت معالجة مشكلة بسيطة علوية/اسماعيلية بحكمة، كما كان يحدث دوماً، أو لو عرف الضابط الفرنسي الذي ذهب إلى معقل الشيخ كيف يتعامل مع مقامه ويفهم حساسية ومخاطر الدوس على الكرامات. وبالنسبة للعلويين والاسماعيليين، كان دخول فرنسا فرصة تاريخية للاستراحة والتخلص من معاناة الألف عام، وانتظار تطورات صراع الكبار في المنطقة، والذي لم يكن ليأخذ مصالح الجماعات الصغيرة بالحسبان.
بدورهم، كرر الفرنسيون أخطاء إبراهيم باشا في التعامل مع العلويين، فمع أنه حمل إلى شعوب سورية الواقعة تحت الحكم العثماني إصلاحات لم تكن لتحلم بها، والتي أخذت بمعظمها السلطنة العثمانية لاحقاً، فقد أدت إجراءاته التعسفية الفوقية في تطبيق هذه الإصلاحات العلمانية إلى انقلاب معظم العلويين عليه، وتفضيل الحكم “الرخو” للعثمانيين.
بعد هزيمة صالح العلي واستسلامه إلى السلطات الفرنسية في اللاذقية (1922) وتقسيم سورية إلى دويلات، ومنها دولة العلويين، انقسمت النخب العلوية إلى تيارين، واحد يريد الاستقلال في دويلة علوية والثاني يريد الانضمام إلى مشروع الدولة السورية. من الصعب معرفة أي من التيارين كان الأقوى على أرضٍ سياسية متحركة باستمرار، لكن، من المرجح بأن تيار الاستقلال كان هو الأقوى، وخاصة بعد إعلان عزيز بك الهواش زعيم المتاورة عن تأييده للفرنسيين.
في كل الأحوال، كان الخوف العلوي حقيقياً من أن يعود حكام الأغلبية إلى محاولة تسنين العلويين وعدم احترام استقلاليتهم الدينية والنظر إليهم كمارقين، وهو ما كان لبّ المشكلة في التفاوض والتنازع الذي ساد في تلك الفترة بين النخب العلوية ونخب الداخل. كان العلويون يعرفون أن دويلتهم لا تمتلك مقومات قيام دولة، وميزتها الوحيدة هي الانفتاح على البحر، وهذا بالضبط ما يحتاجه الداخل السوري أيضاً، فتمت رشوتهم بفتوى من الشيخ أمين الحسيني، بالتماس من العلامة العلوي سليمان الأحمد، وتم دمج دولة العلويين مع دولتي حلب ودمشق، لكن من دون حسم وضع العلويين الديني والاعتراف بتميزهم، مقارنة بالدروز.
ما كان يحتاجه العلويون، وغيرهم من الأقليات المذهبية والقومية، هو الاعتراف بخصوصيتهم الدينية والاجتماعية والثقافية في دولة ديمقراطية لا مركزية، علاوة على خطط تنموية عاجلة لتطوير الريف السوري، بما في ذلك مناطق العلويين، وهذا ما لم تستطع الدولة الوطنية خلال عمرها القصير وإرثها الإقطاعي أن تحققه، لينمو جنين الاستبداد في تربة خصّبتها معاناة الأرياف.
ثم عادت إشكالية انتماء العلويين الدينية مرة أخرى عام 1974، حين احتاج حافظ الأسد لتثبيت إسلاميته بعد قيام بعض الاحتجاجات على رئاسته، كونه علوياً، فجاءت فتوى من الإمام موسى الصدر لتقول بإسلامية العلويين كجعفريين. لم يعمل العلويون بالمذهب الجعفري ولا كانوا بحاجة إلى هذه الفتوى، لا سيما أنهم كانوا يسيّرون شؤونهم ومعاملاتهم الدنيوية، كالزواج والإرث، تبعاً لأحكام المذهب الحنفي السني منذ الإصلاحات العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. في كل الأحوال، وبين التسنن والتشيع، سيبقى العلويون جماعة متميزة دينياً واجتماعياً، ونظراً لغياب مرجعية دينية موحدة، وهذا أمر جيد للغاية، فإنهم سيختارون النظام الديمقراطي والحوكمة اللامركزية في أي صيغة ستتم إعادة تشكيل سورية من خلالها.
الآن، وبعد طمس التناقضات المتراكمة في المجتمع السوري واستغلالها طوال عقود من الاستبداد، فإن إعادة بناء الدولة السورية لا بد وأن يأخذ بالاعتبار كل الأسباب التي أوصلتنا إلى هذه الحال المريرة، ومنها إفساح المجال لاحترام خصوصية الجماعات المختلفة وخياراتها، بما لا يتعارض مع قيام دولة قوية بتنوعها وتعدديتها. وفيما يتعلق بالشؤون الداخلية، فلتقررها كل جماعة بطريقة ديمقراطية، شريطة أن يكون ثمة خيار آخر للأفراد بحل مشاكلهم عن طريق دستور وقوانين مدنية عامة تشكل هيكل دولة المواطنة العلمانية الديمقراطية.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”