إشكالية تموضع العلويين في التاريخ 2
لم تختلف حالة العلويين عن حالة سكان الأرياف في بقية المناطق التي سيطر عليها العثمانيون، باستثناء اعتبارهم في الأدبيات والرسائل السلطانية كمجموعة من الهراطقة ولا تنطبق عليهم مقاييس الدين الإسلامي حسب المذهب السني، فتم استخدام ذلك كسلاح إضافي عند الحاجة إلى اتخاذ إجراءات “تأديبية”. لكن ذلك لا يختصر معاناة العلويين في تلك الفترة، فقد حضرت أيضاً الصراعات البينية والنزاعات على المساحات الجغرافية المحدودة مع المجموعات العرقية أو المذهبية في المناطق المجاورة.
تموضعت السلطنة العثمانية في بداية القرن التاسع عشر بين قوتين حضاريتين، أوروبا من جهة ومصر محمد علي باشا من جهة أخرى، وكان لابد لها أن تتأثر وتأخذ بالإصلاحات التي اعتمدها إبراهيم باشا إبان حملته على سورية (1831)، وصولًا إلى إصلاحات السلطان عبد الحميد بدءاً من عام 1876، والتي شملت جبال العلويين أيضاً، فتم الاهتمام بالتعليم وإقامة المدارس من أجل منافسة دعوات التبشير المسيحية التي انتشرت في الجبال من جهة، ومحاولة التطبيق الصارم لنظام التجنيد، باعتبار أن العلويين صاروا بمثابة مواطنين كاملي الحقوق في “الدولة العلية”، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، ويخضعون لإجراءات التقاضي المستندة إلى فقه المذهب السني الحنفي ذاته في ما يتعلق بالإرث والأحوال المدنية، الأمر الذي ما يزال قائماً حتى تاريخه.
سبقت ذلك محاولات مهمة للانفتاح على العلويين، وكانت السياسات الحكيمة لوالي دمشق، مدحت باشا، قد مهدت السبيل للإصلاحات التالية في عهد السلطان عبد الحميد. فبعد الغدر بإسماعيل خير بك، زعيم حركة التمرد الواسعة جنوب الساحل، من قبل قريب كان قد التجأ إليه في قرية عين الكروم على المنحدر الشرقي للجبال الساحلية، ومن ثم حمل رأسه وآخرين من عائلته إلى دمشق (1858)، كما كان متبعاً في مثل هذه الإجراءات التأديبية العثمانية؛ تعاون/تهاون الوالي مدحت باشا مع قائد التمرد هواش خير بك، الابن البكر لإسماعيل خير بك والناجي الوحيد من المذبحة، ولعب الأمير عبد القادر الجزائري المقيم في دمشق دور الوسيط بينهما. تم نفي هواش في نهاية المطاف إلى مدينة عكا ومنها إلى جزيرة رودوس اليونانية، وتحول قبره إلى مزار هناك.
انعكست الإصلاحات العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر على حال العلويين بدرجة ما، ما أبرز نخباً دينية وثقافية جديدة. رفع خريجو المدارس العثمانية مطالب العلويين السياسية ودافعوا عنها (محمد غالب الطويل، عبد الرحمن الخير، حسين ميهوب حرفوش، عبد اللطيف اليونس، أحمد علي حسن، حامد حسن، إبراهيم عبد اللطيف مرهج، سليمان الأحمد… وغيرهم)، وقد أخذ معظمهم بإسلامية العلويين أو مزجوا بين الظاهر والباطن، الباطن الصوفي وليس الطريقة الخصيبية (نسبة إلى الداعية حمدان الخصيبي، مؤسس ومُستبطن المذهب العلوي)، وحاولوا إعادة وصل ما انقطع في تاريخ العلويين منذ العهد المملوكي. مقابل ذلك، بقي الكثير من رجال الدين التقليديين، الذين ترتبط مصلحتهم بجهل العامة وتجهيلهم، ضد أي محاولة للتنوير، وتمسكوا بمنهج الطريقة الخصيبية الباطنية التي شابتها بدع كثيرة من جراء العزلة شبه التامة عن العالم الخارجي، فتحولت إلى نوعٍ من الأخويات الذكورية الضيقة.
بيد أن محاولات العثمانيين لنشر التعليم وبناء المدارس تعثرت ولم تصل إلى مستوى الطموحات؛ بسبب مشاكل السلطنة الداخلية وعمق الجهل ونظرة العثمانيين الفوقية نحو العلويين كبرابرة يجب تمدينهم وتسنينهم، وما أعقب ذلك من ردّات فعل، ولو أنهم لم ينكروا الظلم الذي أحاق بالعلويين، حتى من قبل العثمانيين أنفسهم، وقد عبّر والي دمشق الإصلاحي، مدحت باشا، عن ذلك بوضوح في أكثر من مناسبة. لكن الحمل كان ثقيلاً من جراء قرون من العزلة التي تم فيها إفقار المصادر الأساسية للتدين العلوي، ومنها المصادر الإسلامية والصوفية والعرفانية، وساد فيها الجهل الذي اقتضته مصلحة رجال الدين في تحويل أموال الزكاة إلى جيوبهم.
في العزلة التي فرضها العلويون على أنفسهم أو فُرضت عليهم، أصبحت طريقة التواصل مع العالم الخارجي هي إما عن طريق الحملات التي كان يشنها الانكشاريون على القرى الجبلية في حالة الامتناع عن دفع الضرائب ورفض التجنيد، أو الانتفاضات المرتبطة بها، بما في ذلك قطع الطرق والسلب والعصيان، ما عزز المواقف النمطية المسبقة عن العلويين كأشرار وهراطقة وغير ذلك من النعوت. هنا لابد من الإشارة إلى التمايز بين منطقة وأخرى من حيث مستوى الاحتكاك بالمحيط، فقد كان علويو السهول، كالسهل الساحلي وسهل الغاب، الخاضعين لإقطاعيي المدن، أكثر مرونة وتمدناً من سكان المناطق الجبلية القصية التي لم تُحكم مباشرة من قبل الإقطاع أو السلطات العثمانية.
ولم تستطع ألف سنة من حياة العلويين أن تحسم مسألة انتمائهم إلى المدرستين الإسلاميتين الرئيستين، السنية والشيعية، ولن تستطيع، إذ من المفترض الكف عن محاولات احتوائهم مذهبياً، سواء عن طريق تسنينهم، كما حدث في العهد العثماني، أو تشييعهم، كما حدث بعد الثورة الإيرانية. كما أن الحديث عن العلويين، كمذهب ودين وتقية، يتجاهل طبيعة غالبيتهم الأقرب إلى العلمانية والمنفلتة من قيود الطريقة الباطنية، فضلاً عن تعدد مرجعياتهم الدينية أو عدم وجودها.
تجدر الإشارة إلى أن الانتقال من المذهب السني إلى الشيعي أو العكس أسهل بكثير من الانتقال من الطريقة العلوية إلى أحد المذهبين المذكورين، نظراً إلى القرب العقائدي والكثير من مشتركات العبادة بين السنة والشيعة، في حين تحد الطريقة الباطنية لتدين العلويين من ذلك، إذ يبدون في هذه الحالة وكأنهم يتخلون عن “سرهم”، فضلاً عن أن الإسلام هو المصدر الرئيس، وليس الوحيد، لعقيدتهم. يفسر ذلك النجاح المحدود لمحاولات تشييع العلويين بعد الثورة الإيرانية، مقارنة بمناطق سنية سورية أخرى، كالمنطقة الشرقية، وقد بقيت الجوامع التي مول بناءها الإيرانيون في المناطق العلوية شبه خاوية.
يتبع…..
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”