إشكالية تموضع العلويين في التاريخ
لم يكن العلويون على هذه الدرجة من التمايز في بداية انقسام المجتمع الإسلامي إلى عشرات الفرق والمذاهب في العهدين الأموي والعباسي، والتي أسفرت عن تمأسس فرقتين كبيرتين، سنية وشيعية، فيما بقيت عشرات الفرق الصغيرة تكافح لإثبات نفسها على هامش هاتين المؤسستين، اللتين ادعت كل منهما أنها وريثة الإسلام والمعبرة عن أصوليته.
وقاد النبذ المستمر لهذه الفرق الصغيرة، المترافق بمحاولات الاحتواء التامة أحياناً، إلى اتخاذها مواقف متطرفة، بغية إثبات الذات وتأكيد التفرد والخصوصية. لم يكن ثمة من حلول وسط في تاريخ العقائد وفروعها وأصولها، فكانت الصراعات العقيمة والدامية هي منطق التاريخ لإحداث الحركة أو الاضطراب، على أمل الاستحواذ على العقيدة – الفكرة وتسويغها لتحقيق الغلبة. كما لم يكن التمترس العقائدي، وما يزال، قادراً على التعامل مع المختلف، كحيز من طيف واسع من التنوع الطبيعي.
حتى سقوط الدولة الحمدانية، كانت العلوية (النصيرية) مجرد فرقة شيعية دعوية غير منغلقة على ذاتها، ويتنقل دعاتها في الأمصار الإسلامية بحرية، من بغداد إلى مصر، في مرحلة كان الدين محرك الصراعات ومسرح تجلياتها ولبوسها الذي لا مفرّ منه، ولم يزل كذلك في المستويات ما قبل الدولة الديمقراطية – العلمانية في شرقنا العتيد. والدولة الديمقراطية الحديثة هي التي تتوفر في كنفها إمكانية إعادة تموضع الدين، فلا تستغله السياسة، ولا يستغلها بادعائه التوكيل السماوي الحصري.
لم يختر العلويون، مثل أقليات كثيرة، الجبال بمحض إرادتهم في العهدين المملوكي والعثماني، وكانوا يغادرونها متى كان بوسعهم ذلك إلى السهول والسواحل في المراحل التي تنحسر فيها الصراعات الدامية، لكنهم أُجبروا على ذلك أو أجبروا أنفسهم لأجل حماية الطريقة/العقيدة. ويتكيف المعزول أحيانًا بطريقة سلبية، حتى أن جولات الغزو وقطع الطرق كانت تخدم كوسيلة من وسائل التواصل القسرية للمعزولين، ليبقوا في كنف العالم ويتعرفوا عليه ويأخذوا بمنجزاته. ينطبق ذلك أيضاً على المجتمعات البدوية، التي ما انفكت تغير على الحواضر الزراعية من وقت إلى آخر.
وبمقدار ما ترسخت النظرة إلى العلويين كهراطقة في العهدين المملوكي والعثماني بمقدار ما زاد تقوقعهم وانعزالهم، دينياً وجغرافياً، وبما يشبه التشرنق المترافق بالتقية الضامنة من الخوف. لقد شاءت الظروف التاريخية أن يقع العلويون في نطاق هيمنة المؤسسة الدينية السنية، في حين لم تكن المؤسسة الدينية الشيعية، التي اكتمل تأسسها لاحقاً في جنوب العراق وامتداده الإيراني، لتتقبلهم، باعتبارهم “غلاة”، ولم يدفع التجاور الجغرافي النسبي للشيعة الاثني عشريين والعلويين في جبال لبنان وغرب سورية إلى تحالفهم يوماً، على الرغم من التقارب المذهبي المتمحور حول تعظيم آل البيت.
وكدولة أو إمبراطورية، تمحورت السياسة العثمانية تجاه العلويين، مثل شعوب باقي الأمصار التابعة لها، حول أمرين اثنين هما تحصيل الضرائب والتجنيد، ونادراً ما حصل ذلك على نحو مباشر، بل بوساطة معتمدين محليين تحولوا إلى زعامات مناطقية كرست مفهوم العشيرة، التي يصعب تقصي روابط الدم للمنتمين إليها؛ بمعنى أن العشيرة هنا هي مجموعة الناس الذين يخضعون لهيمنة زعيم – مقدَّم موكّل بجباية الضرائب لصالح السلطنة العثمانية بوساطة مجموعة من رجاله المسلحين.
أحدث ذلك ضرباً من ازدواجية السلطة في المناطق العلوية، والتي تقاسمها المشايخ ومقدمو العشائر، حيث السلطة المعنوية للمشايخ والمادية للمقدّمين، فكان ذلك بداية استنساخ مصغّر لنموذج السلطة الذي ساد في التاريخ الإسلامي كله، بما في ذلك السلطنة العثمانية، واستمر في الجمهوريات والممالك العربية حتى تاريخه، بدرجات مختلفة؛ أي السلطة الزمنية، الاستبدادية، المدعومة بالإكليروس الديني. في هذه الأثناء، تحول العلويون من مجموعات ترتبط ببعضها بعضا، كضربٍ من الأخويات الذكورية المتضامنة والمتنافسة في آنٍ معاً، إلى وعي ذاتهم كجماعات سياسية عشائرية، وليس مجرد انتماء إلى المذهب أو الطريقة، التي انزاحت إلى خلفية الأحداث، فتراجع دور رجال الدين لصالح السلطات العشائرية.
ففي القرن الثامن عشر، برزت شخصيات عشائرية علوية مهمة، كان أبرزها في جنوب الساحل، صقر بن محفوظ وإسماعيل خير بك. شمل نفوذ الأخير منطقة واسعة تمتد من حمص إلى طرطوس ومن تلكلخ إلى مصياف وعاصمتها الدريكيش، والتي تشكلت فيها حكومة بين عامي 1854 و1858 سميت بحكومة الدريكيش. وباستثناء هذه المحاولة الجريئة لإقامة كيان علوي على غرار موارنة جبل لبنان، لم يعِ العلويون ذاتهم كذات سياسية موحدة، إنما كمجموعات عشائرية متنافسة، إلا في الحالات التي شكل فيها العامل الخارجي تحدياً وجودياً.
ولعل من أبرز هذه الأخطار هو التحدي الذي واجهه العلويون من قبل الأكراد الذين استوطنوا قلعة صهيون (صلاح الدين) شرق اللاذقية في العهد الأيوبي، والإسماعيليين القاطنين في قلاع جنوب الساحل، ما حدا بهم لاستدعاء إخوانهم في العقيدة والأصل العشائري من منطقة سنجار شمال العراق. قاد المكزون السنجاري حملة أولى باءت بالفشل عام 618هـ، وثانية بعدها بعامين، وكانت حملة استيطانية، فتمكن من إبعاد خطر الأكراد وعقد صلحاً مع الإسماعيليين، ثم وزع الأراضي التي استولى عليها على العشائر السنجارية، وعلى هيئة قطاعات تمتد من ساحل البحر إلى أعالي الجبال.
كانت معظم العشائر السنجارية، ذات الأصول العربية اليمنية، قد قاتلت إلى جانب الخليفة الراشدي الرابع في حربه مع معاوية، ثم انسحبت، بعد هزيمة جيش علي، إلى ملاذات جبلية شمال العراق. ويعدّ المكزون السنجاري من أبرز الشخصيات في التاريخ العلوي، وقد اعتكف بعد حملته وتحوّل إلى التعبير عن رؤاه الصوفية شعراً.
يتبع…
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”