إرادة الحياة بين عصف الطبيعة وعسف السلطة
قراءة في مذكرات الدكتور منير شحود
عن دار (اي – كتب للطباعة والنشر) في لندن صدر كتاب مذكرات الدكتور منير شحود في جزأين، حمل الجزء الأول منه عنوان (جبال الأغاني والأنين) وصدر في عام 2019، فيما حمل الجزء الثاني عنوان (رقص منفرد على الجمر) وصدر هذا العام.
يتناول الكاتب في الجزء الأول من مذكراته طفولته ومطلع شبابه في قريته الكائنة إلى الشرق من بلدة الدريكيش بمحافظة طرطوس.
ومثل تدفق النبع من قلب الصخر بقوة وعنفوان في بطن الوادي، تتدفق ذكريات الدكتور منير في الجزء الأول من كتابه؛ حيث يخطفنا إلى عالمه الريفي الجميل، متسلحاً بالانفعال الصادق، والذاكرة الخصبة، واللغة التي تتألق أحياناً لتصل إلى مرتبة الشعر، وتنبسط تارة أخرى لتقارب اللغة المحكية، دون أن يجد القارئ تناقضاً أو تعارضاً بين هذه وتلك، حيث تتجلى حميمية المكان ودفؤه، قلت (يخطفنا)، لأنك حين تنسلُّ إلى داخل الكتاب تنسى أنك قارئ حيث تندغم بروح الحكاية وأحداثها حتى تخال نفسك أحد أبطالها، فتشارك الطفل شقاواته، والأم صبرها وحنانها، والأب صلابته وأغانيه وصمته.
إنها سيمفونية الكفاح المرير من أجل البقاء في ظروف بالغة القسوة، يشترك فيها البشر والحجر والشجر والحيوان، والكاتب لا يتحدث عن هذه الفئات بصفتها كائنات متجاورة أو متخارجة عن بعضها، وإنما بصفتها كلاً مندغماً في وحدة لا تنفصل أجزاؤها لتشكل البيئة التي عاش فيها الكاتب، وذلك من خلال أنسنة كل هذه الكائنات؛ فالأشجار تبكي، والبقرة تفيض السعادة من عينيها، وهي ترضع صغيرها، والسرطعان ينظر بحيرة وقلق، وللبقرات أسماء تميزها: فهذه حمُّورة، وتلك شقُّورة، وثالثة صبْحَى، كما لا ينسى الكاتب ذكر أسماء العصافير المحلية والمهاجرة، وأسماء الأسماك في النهر، والسحالي والأفاعي والذئاب، باختصار، إنه يرسم لوحة بانورامية لحياة الناس في القرية بكل غناها وفقرها، وبساطتها وتنوعها، ولا ينسى الغوص في التفاصيل اليومية ذاكراً أنواع الطعام والفاكهة، وتقطير العرق، وتربية دودة القز ودولاب حل الحرير، وأنواع اللباس لكلا الجنسين، إنها بالفعل ملحمة الطبيعة والإنسان.
يعمد الكاتب إلى تصوير الطبيعة وغضبها وقدرات الإنسان المحدودة في توقِّي هذا الغضب، فالنهر الذي يفيض سنوياً يقتلع الأشجار، ويهدم البيوت القريبة من ضفتيه، ويجرف الحيوانات من زرائبها، حتى إنه لا يتورع عن خطف فتاة قروية في إحدى السنوات، كما نجد الريح الشرقية وصقيعها الذي ينخر العظام، وليالي المطر الغزير الذي يخترق الأسقف الترابية دالفاً إلى البيوت وما تحتويه من أثاث وسكان، ولعلها من الصور المؤلمة والمؤثرة صورة الطالب الذي يضطر إلى المسير عدة كيلومترات تحت المطر لكي يصل إلى مدرسته، وحين يعلق حذاؤه في الوحل يضطر إلى متابعة المسير حافياً، ويدخل إلى المدرسة وقدماه ملطختان بالوحل، الأمر الذي دعا مدير المدرسة إلى التعاطف معه، وإعطاء الأمر بشراء حذاء جديد له ولغيره من الطلاب المحتاجين من صندوق التعاون المدرسي.
وإذا كانت معاناة الإنسان في الجزء الأول من المذكرات بسبب الطبيعة وعواصفها وأهوالها، فإن معاناته في الجزء الثاني كانت بسبب الظروف الاجتماعية والسياسية ممثلة بسلطة الاستبداد والفساد واستطالاتها في مختلف مناحي المجتمع والحياة، إذ يحمل الكاتب صليبه، وينطلق في دروب الحياة الأكثر وعورة من دروب قريته الجبلية، ولعلها ذات دلالة عنونة الفصل الأول من هذا الجزء بـ” قطار الضباب”؛ حيث تتقلص حدود الرؤيا، ويندفع المرء في مسارات تضيق فيها حرية الاختيار، فيصوّر لنا الكاتب مرحلة التخصص في الاتحاد السوفييتي السابق، ثم عودته إلى سوريا، ومعاناته مع البيروقراطية والفساد والمحسوبيات التي تنخر مفاصل الدولة والمجتمع، الأمر الذي حرمه من حقه في الحصول على مسكن لائق لأسرته، واضطره إلى السفر للعمل في جامعات ليبيا والسودان وتحمُّل المعاناة للتكيف مع بيئات قاسية ومختلفة عن البيئة التي ترعرع فيها، وما رافق ذلك من شوق وحنين إلى بيئته وأناسه.
إن الحصار الاجتماعي والمضايقات الأمنية التي تعرض لها الكاتب بسبب رفضه للفساد والمحسوبيات وإصراره على حقه في الحياة الحرة الكريمة، قد جعله يعوض عن ذلك من خلال العمل المخلص والعطاء والحب الذي فاض به على طلابه وطالباته، الذين بادلوه حباً بحب واحتراماً باحترام، بحيث تعدت علاقته بطلابه علاقة المدرس والطلاب، وتحولت إلى علاقة صداقة أخوية أو أبوية استطاع من خلالها أن يكسب ثقة طلابه لدرجة أن بعضهم صاروا يحكون له مشاكلهم الخاصة، ولم يتوان في تقديم الرعاية والنصح والتوجيه لهم، الأمر الذي لم يرق لسلطات الجامعة ومن يساندها، فازدادت الضغوط عليه، وأفضى ذلك في النهاية إلى حرمانه من التعليم في الجامعات الحكومية أولاً، ثم من الجامعات الخاصة في مرحلة تالية، وهكذا أكدت سلطات الاستبداد مرة أخرى تناقضها الصارخ مع كل صوت نظيف ومستقل، وقدرتها على نبذ الطاقات العلمية الكفوءة، وحرمان المجتمع من الاستفادة من طاقات أبنائه المبدعين والشرفاء.
وقد استعرض الكاتب في مذكراته معظم الأحداث التي مرت بها سوريا في الحقبة الزمنية التي طالتها مذكراته معلقاً ومحللاً على الأحداث باقتضاب ووضوح، ومنتقلاً من الخاص إلى العام وبالعكس؛ إذ استعرض ما تعرض له البلد من انقلابات وتحولات اجتماعية وسياسية منذ ستينيات القرن الماضي وحتى مطلع القرن الحالي، وانعكاسها على أهل قريته وأهل الجبل عموماً؛ من نزوح إلى العاصمة، ودخول في سلك الجيش والأمن، وحرص السلطات على أن يظل شباب الساحل خزاناً لا ينضب لهذين السلكين الحكوميين، ولذلك عمدت السلطات إلى المحافظة على حالة الفقر، وعدم تطوير هذه المناطق؛ وهكذا لم يجد الشباب خيارات أخرى للعيش سوى الانضواء في مؤسسات السلطة ليستطيعوا العيش، كما لا ينسى الكاتب ما مر به بلده في ثمانينيات القرن الماضي من صراع بين السلطة وتنظيم الإخوان المسلمين، وما أدى إليه من تغول الدولة الأمنية، وقمع كل أشكال الاحتجاج، وصولاً إلى مهزلة التوريث، وتواطؤ المجتمع الدولي معها، ومباركته لها، ما أفضى إلى نتائج كارثية تجلت في الانفجار السوري الكبير.
إن المقارنة التي يمكن أن يقوم بها القارئ بين ظروف الحياة في كل من جزأي المذكرات، تظهر بشكل جلي أن الطبيعة وعواصفها وأهوالها لم تستطع أن تمنع الأب في الجزء الأول من المذكرات من بناء بيت آمن لأفراد أسرته، وذلك لوجود روح التعاون والتشارك والتعاضد بين أفراد المجتمع، في حين لم يستطع الكاتب في الجزء الثاني امتلاك بيت خاصٍّ به، بعد أن انتشرت الروح الكلبية بين أفراد المجتمع، وانتشر التسلط والفساد في كل ركن من أركانه. كما أن الظروف القاسية في قرية جبلية نائية لم تحل دون حصول الطفل على حقه الطبيعي من الأمان والحنان، في حين فشل الأب في الجزء الثاني في تكوين أسرة مستقرة تنعم بالدفء والأمان والحنان، رغم محاولاته المتكررة وسعيه الدائب لتحقيق ذلك، الأمر الذي انعكس على شخصية ولده وتحصيله الدراسي. باختصار: لقد كانت سلطة الاستبداد أكثر كارثية على الفرد والمجتمع بما لا يقاس من غضب الطبيعة وأهوالها، وإذا كانت الطبيعة تغضب وتظهر عينها الحمراء في فصل من فصول السنة، وتبدو مسالمة وحانية ومعطاءة في بقية الفصول، فإن عسف السلطة وتدميرها الممنهج للفرد والمجتمع يستمر بشكل متصاعد ويطال الفصول كلها، ولا يقتصر على فصل محدد.
وفي ظني أنه من النادر أن نجد بين كتّاب السيرة الذاتية أو المذكرات في الأدب العربي الحديث من يتحدث بعفوية وصدق عن ذاته أو عن بيئته، كما فعل الدكتور منير شحود، إذ نرى أن الكتابة تمر في أغلب الأحيان عبر مقص الرقيب القابع في وعي الكاتب ولا وعيه، وذلك إما تجنباً لغضب السلطة أو مراعاة لقيم المجتمع وتقاليده، وهذا ما يقلل من قيمة الكتابة الذاتية ويفقدها أهم خصائصها ألا وهي العفوية والصدق، ونستطيع القول بكل ثقة: إن الكاتب استطاع تجاوز هذه المعضلة ما أعطى كتابه درجة من الصدقية والعفوية استطاعت النفاذ إلى أعماقنا، وتركت أثراً طيباً في وعينا الجمالي وآلية تلقينا لكتابه الممتع.
لقد واجه الكاتب الموروث الثقافي والاجتماعي والديني بجرأة ووعي، مستعرضاً ومفسراً حيناً، ومنتقداً أحياناً كثيرة، خاصة حين كان الأمر يتعلق برجال الدين ودورهم في المجتمع، ولم يتهيب من ذكر الكثير من العادات والطقوس كالأعياد والأولياء والأضرحة، وارتباط ذلك كله بظروف معيشة الناس وحاجاتهم من أجل الاستمرار والبقاء.
وإذا كان ما يجعل الأدب عالمياً هو درجة لصوقه بمحليته، وآلية استيعابه لها، كما قال أحدهم، فإني أزعم أن هذا الكتاب حقق هذه الدرجة بامتياز؛ وذلك لقدرته على الغوص إلى أعماق بيئته المحلية، والتعبير عنها بشفافية وصدق… فضلاً عن أنه استطاع تحقيق المتعة لقارئه، واشتمل على عوامل التشويق القادرة على شد القارئ وجذبه، وأشهد بأني استمتعت بقراءته أيما استمتاع، وأمضيت بصحبته أوقاتاً جميلة تدفعني إلى تهنئة صاحبه بكتابته، متمنياً له دوام العطاء والإبداع.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”