إخاء الأديان
يمر مصطلح إخاء الأديان بتساؤلات صارخة على ضفتي الحوار، فينظر إليه المحافظون بعين الريبة حيث يقدمون أديانهم للناس على أنها الدين الواحد الذي لا شريك له، ولا يرون مكاناً لدينين اثنين، فالحق لا يتعدد، والناس إما مسلم أو كافر، وفريق في الجنة وفريق في السعير…
وليس هذا التفكير حصراً على المحافظين من المسلمين بل ستجد المعنى نفسه أيضاً لدى المحافظين في المسيحية واليهودية، وبدرجة أقل في الديانات الشرقية التي تنظر للدين عموماً بروح أكثر ديمقراطية وتأذن للفرد باختيار أكثر من دين أو التشارك من دين إلى دين.
فيما ينظر المتشددون من العلمانيين عموماً إلى هذه العناوين بريبة وشكوك، ويرونها محض تلميع وترقيع، حيث لا مجال للإخاء بين الأديان، بل هو الصراع والنزاع، يدل على ذلك تاريخ طويل من الحروب، ولا سبيل للحل بالكلام عن إخاء ومصالحات وتبويس شوارب، بل إن الصراع بين الأديان ماحق ومستمر إلى أن يتم فصل الدين عن الدولة، وحصر الكهنة في المعابد.
وفي كتابي الأخير اخترت عنوان “إخاء الأديان” وأردت بوضوح أن أتحدث عن المشترك بين الأديان، ليس على أساس خلط الأديان وتوليد دين جديد، ولا على أساس الحوار اللاهوتي العقيم، بل على أساس الإخاء والمحبة، القائم على مبدأ لكم دينكم ولي دين.
وقد ابتعدت عن مصطلح صراع الأديان الذي يسجل تاريخ الحروب الدينية، وكذلك حوار الأديان الذي يسجل المناظرات والمناكفات اللاهوتية العقيمة، وكذلك وحدة الأديان التي تنكر الخصائص المختلفة لكل دين، وكذلك توحيد الأديان الذي يهدف إلى طبخ ديانة جديدة بانتخاب أجمل ما في الأديان، وبحثنا عن المعنى الاجتماعي في لقاء أتباع الديانات وحاجة البشرية للإخاء والتكامل الإنساني.
وسواء قبلنا المصدر السماوي للدين أو لم نقبله فإن من المؤكد أن الدين يمثل جانب الفضائل في الإنسان أو هو الأنا العليا وفق سيجموند فرويد والكارما وفق عقائد الهندوس والنيرفانا عند بوذا وهو المواد فوق الدستورية عند أهل القانون وهو الضمير عند الماديين، وهو مركز القيم العليا التي يتبناها الانسان عندما يكون تائقاً للفضيلة والأخلاق الحميدة والإحسان إلى الناس.
وعلى الرغم من أن الدعوات إلى الإلحاد قد بدأت منذ عهد بعيد، وانتظمت حركات وأحزاباً ونشاطات مختلفة فإنها لم تصبح قوة حقيقية في العالم ولا زال الدين يتفوق عليها بشكل لا يقدر عدداً وجمهوراً وتأثيراً، ويمكن القول دون أدنى مبالغة، إن ثمانين بالمائة من سكان هذا الكوكب موقنون بأن الفضائل والقيم العليا موجودة في دين ما وأن عليهم أن يتبعوه لينالوا سعادة الدنيا وخلاص العالم الآخر.
وفي هذا السياق يجب أن تكون الفضائل الدينية متحدة ومتقاربة، وذلك تأسيساً على وحدة الهدف الذي تسعى إليه، ووحدة النوايا الطيبة التي تحمل قادة هذه الأديان على كتابة أفكارهم ونواياهم.
ولكن الواقع خلاف ذلك، ولا تبدو الأديان في وضع يحملنا على الاعتقاد أنها أداة تقارب إنساني ووفاق مجتمعي، ولعل العقيدة الدينية كانت سبباً في اندلاع عشرات الحروب في التاريخ ولا تزال، حتى قال أبو العلاء: إن الديانات ألقت بيننا إحناً ولقنتنا أفانين العداوات.
هل بات الدين ظاهرة شتات وشقاق، وهل بات الخلاص من الأديان هو سياق الحضارة الحديثة التي تبني قيمها على نور العقل ومرجعية القانون؟
لا خلاف أن رجال الدين في الأديان كافة يملكون شعور احتكار الحقيقة ويتحدثون عن الآخر على أنه في ضلال مبين، ومهما شاركوا في لقاءات وحوارات فسوف يعودون إلى قواعدهم يحملون الأسى والحسرة لإمعان الناس في الكفر، ولن يغير من حزنهم إلا فلاحهم في تغيير دين حائر جديد.
وهذا اللون من الأنانية وقع فيه رجال الأديان كافة، وقد أشار القرآن الكريم إلى ثلاثة أنماط من رجال الدين مارسوا ذلك ورد عليهم بخطاب مباشر وواضح، كان ينبغي ألا يترك أي وهم في رفض الإسلام لنظرية احتكار الخلاص، ولكنه للأسف تم تأويله عن ظاهره، في غمار ما تأوله المفسرون لموافقة العقيدة الطحاوية والواسطية.
في القرآن الكريم: “وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى.. تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين” وفي الآية تقريع شديد على هذه المزاعم ووصفها بالأماني الفارغة.
ولكن بعد قليل ظن بعض المسلمين أن الأمر لا يعنيهم ولم يفهموا ذلك في سياق سنني، وحسبوه موقفا منحازاً لدينهم دون الآخرين، فقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان مسلماً.. وهنا نزل على الفور قول الله تعالى: “ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيرا”
ثم جاء مزيد من التوضيح على بيان الآية فقال تعالى: “ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً، ثم جاء الثناء على أهل الأديان كافة في صيغة جامعة تشمل كل الأديان الابراهيمية وهي قوله: “ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلاً”
ليس المقام هنا بالطبع للكلام في اللاهوت، ولكنني بالفعل بت أشعر أن أكبر أمراضنا في رفض الآخر وتسفيه اعتقاده وتفكيره، منشؤه غياب نصوص دينية مباشرة في التسامح وإبراز نصوص قرآنية أخرى تتصل بالحرب ولها ظروف بالغة الاختلاف عن هذا، كالآية: وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة، وهذا موقف حرب واشتباك، ومن الخطأ تماماً تعميمه في إطار العلاقات مع الآخرين.
إنها بالفعل دعوة مباشرة لفهم الإسلام العظيم بروح مختلفة، دين بين الأديان وليس ديناً فوق الأديان، وأمة بين الأمم وليس أمة فوق الأمم، ونبي كريم ونبيل عرف عن نفسه فقال: لا تفضلوني على يونس بن متى، لا تفضلوني على موسى بن عمران، لا تفرقوا بين أحد من رسله، بل نبي بين الأنبياء وليس نبياً فوق الأنبياء.
إنها الروح التي عبرت عنها آية كريمة هي أشهر ما جاء به الأنبياء وصدقه الحكماء، وهي آية أوردها القرآن الكريم عن عمد مطلقة مفتوحة بدون أي قيد من الإيديولوجيا: فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره.
ولكن بعد قليل ظن بعض المسلمين أن الأمر لا يعنيهم ولم يفهموا ذلك في سياق سنني، وحسبوه موقفا منحازا لدينهم دون الآخرين، فقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان مسلماً… وهنا نزل على الفور قول الله تعالى: “ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سؤءاً يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا”
ثم جاء مزيد من التوضيح على بيان الآية فقال تعالى: “ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً”… ثم جاء الثناء على أهل الأديان كافة في صيغة جامعة تشمل كل الأديان الابراهيمية وهي قوله: “ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة ابراهيم حنيفا واتخذ الله ابراهيم خليلاً”
نحاول اليوم أن نصرخ في برية العقل أن نتوقف عن عقدة الاستعلاء الديني، وأن الناس ينتمون إلى أديانهم بحكم الميلاد في المقام الأول فالمسلم هو من ولد من ابوين مسلمين والنصراني كذلك واليهودي والبوذي والهندوكي كذلك، ولا يشذ عن هذه القاعدة في الواقع الذي نعيشه إلا 0.001 بالمائة من الناس، وهي نسبة الذين يغيرون أديانهم بعد الميلاد وهذا أمر تتفق عليه الإحصاءات بلا نكير، ومن المستحيل أن تكون أحكام الله عقلاً تخص هؤلاء، وأن تكون رسالته في الأرض لهذا العدد المحدود من الناس فيما يكون الآخرون في أصحاب السعير.
وحتى لا نتهم بالمبالغة فقد أورد الرواة حديثاً رقمياً دقيقاً لتصورات الناجين والهالكين يوم القيامة وفيه يقول الله تعالى يا آدم أخرج بعث النار فيقول يا رب ومن بعث النار؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون!!
ومن المؤسف ان هذا النص يعتبره الرواة قوي الإسناد، وقد روي في عدد من كتب الصحاح.
إن عقيدة الفرقة الناجية لمن بات يعرف حجم العالم وخريطته الديموغرافية هي موقف يتضمن سوء ظن رهيب بالخالق الذي لم تفلح رسالاته وأنبياؤه في نقل الناس من الضلال إلى الهدى ومن الظلمات إلى النور، وأن رسالات أنبيائه المتعاقبة باءت بالإخفاق، واستمر الناس يتوارثون أديانهم ومذاهبهم، وكيف سيكون اعتقاد المؤمن حين ينطلق من مسلمة رقمية حاسمة أن 999 بالألف من الناس هم أهل جهنم ويستحقون العذاب الخالد!!
بكل تأكيد فما أرويه هنا عن الثقافة الاسلامية له ما يشبهه ويزيد عليه في كل ثقافات الأديان، التي يعتقد أتباعها دوماً أنهم أهل الله وأحباؤه وأن الله اصطفاهم على العالمين.
ومع ذلك فإن القادة الدينيين يتعاملون باستمرار مع هذه نصوص احتكار الخلاص بطرق تأويلية مرنة تترك مكاناً للتعايش والتواد، ولولا ذلك لاشتعل العالم كله ساحات حرب حمراء لا تبقي ولا تذر.
شخصياً أعتقد ان من أبرز واجبات القادة الدينيين العمل على إبراز جمال الديانات ونشر أروع ما فيها ليدرك المؤمن في كل دين أن العالم مليء بالحكمة والخير والنور وأن الإنسان في كل مكان في العالم هو فيض الله وصدوره وروحه وإشراقه وخيره، وأن أخوة الإيمان تتسع لتشمل كل من يؤمن بالخالق ويحب خلقه في أي دين وفي أي ملة.
إنها حقيقة شرحها القرآن الكريم في نص مدهش واضح لا يحتاج أي تأويل: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا وجوهكم فثم وجه الله إن الله واسع عليم.