fbpx

أهمية المواطنة والتّسامح في نبذ خطاب الكراهية

0 336

بات لافتاً – مع استمرار الصراع الدّامي في سوريا – تصاعد واضح في خطاب الكراهية السّوريّ (HATE SPEECH)، وازدادت معه الانقسامات داخل المجتمع، وهي آخذة في التّعمق أكثر فأكثر، فاللّجوء إلى الاتّهامات بالإرهاب والخيانة والتّحريض على العنف قد تفشّت في كلّ مكان، وكانت وسائل الإعلام وصفحات التّواصل الاجتماعيّ منبراً يُغذّي هذا الخطاب.
يكمن وراء تصاعد خطاب الكراهية السّوريّ عوامل عدّة، منها:
النّظام الحاكم في سوريا:
عمل النّظام البعثي الشّموليّ الاستبداديّ منذ استلامه السّلطة على تعميق الهوّة بين السّوريين، وتغريبهم عن بعضهم دينيّاً وعرقيّاً وثقافيّاً ومناطقيّاً، ليُحكِم قبضته عليهم، فأعاق بناءهم لهويّتهم الوطنيّة، مقابل تكريس هويّة الولاء للحاكم، فـسوريا هي (سوريا الأسد). ومع اندلاع الاحتجاجات ضدّه عمدَ إلى اللّعب على الورقة الطّائفيّة، وشيطنة الآخر، وتغذية الفرز الاجتماعي لزيادة الحقد والكراهية بين فئات المجتمع الدّينيّة والعرقيّة والفكريّة، الأمر الذي يضمن له البقاء في السّلطة، فسوريا كما أعلن النّظام صراحة لمن يدافع عنها، وليس لمن يحمل جنسيّتها، فالحرب قدّمت له شعباً متجانساً.
جرّد النّظام السّلطويّ (نظام الأسد) الآخر المختلف معه سياسيّاً من إنسانيته، ووسمه بالإرهاب أو التطرّف أو العمالة، وبذلك حوّل الصّراع من صراعٍ وطنيّ/سياسيّ إلى صراع بين حاكم شرعيّ، وبين خارجين على هذا الحاكم الشّرعيّ.
أطراف المعارضة:
مع تحوّل الثّورة السّوريّة إلى العسكرة أخذت جهات عديدة من المعارضة تتبنّى خطاب الكراهيّة، واستعملته كسلاح في معركتها، ووجهته ليس ضدّ النّظام والموالين له فقط، بل ضدّ كلّ ما هو مختلف معها. فعلى سبيل المثال ارتفعت حدّة هذا الخطاب بين نشطاء عرب وأكراد، حيث تبادلوا الاتّهامات فيما بينهم (انفصاليون، خونة، عملاء). وقامت فصائل مقاتلة ارتهنت لأجندات سياسيّة بتمرير رؤى تلك الأجندات عبر خطاب الكراهية، كقنوات الجهاديين الإسلاميين شديدة الطّائفيّة.
وسائل الإعلام ومواقع التّواصل الاجتماعيّ:
ساهمت بشكل كبير في تأجيج خطاب الكراهية وانتشاره، عندما انحازت لطرف ما ضدّ الأطراف الأخرى، فكان خطابها انعكاساً مباشراً لجهات الصّراع، في ظلّ غياب واضح لمواثيق الشّرف الصّحفيّة (التي تحظرُ الكراهية، وتشويه الحقائق)، وفقدان الرّقابة، والخلط بين حرّية التّعبير وخطاب الكراهية بشكل واضحٍ بعيدٍ عن المهنيّة الإعلاميّة، فمقاطع الفيديو المسربة من جميع أطراف الصّراع (التي يفترض أنّها وثائق للمحاسبة في المستقبل) استُعملت كوسيلة لتغذية الحقد وتطييف الصّراع، واستطاع النّظام توظيف جيشه الإلكترونيّ بشكل ممنهج لنشر خطاب تحريضيّ زاد الضّغينة والبغض بين مكوّنات الشّعب السّوريّ.
إنّ تزايد خطاب الكراهية وتسييسه، أصاب وحدة النّسيج الاجتماعيّ بآثار مدمرة، واستطاع أن ينتشر سريعاً كالنّار في الهشيم بين الأطراف المتصارعة كافةً التي لجأت إليه للتّغطية على هزائمها. ساعدها في ذلك استقواؤها بالخارج، وتشظّي الهوّية السّوريّة، والتّكوين العرقيّ والمذهبيّ لبعض الفصائل العسكريّة (كقوّات سورية الدّيمقراطيّة، والفصائل التركمانيّة، والفصائل العربيّة)، التي خلا خطابها في كثير من الأحيان من الحسّ الوطنيّ. ولا ننسى غياب المرجعيّة الواحدة التي تظلّل السّوريين وتجمعهم، وعجز المعارضة عن تصدير خطاب وطنيّ جامعٍ يلامس عقول الشّعب السّوريّ – ولاسيّما الأقليّات – ويطمئنهم.

ومع تضخّم خطاب الكراهية، أخذت الرّؤية الفرديّة/الذّات تظهر وتتضخّم على حساب الرّؤية العامّة، التي لم تعد ترى في الاختلاف السّوري، وتنوّعه الإثنيّ والعرقيّ والمذهبيّ سوى ساحة خلاف تمخضّت عنه حالة عنفٍ وعزلة، فكلّ مكوّن يحسّ بذاته بعيداً عن المكوّن الآخر، وأخذت بوادر تقسيميّة على أساس كانتونات طائفيّة وعرقيّة تلوح في الأفق.
التّسامح والمواطنة لنبذ خطاب الكراهية والحفاظ على سوريا موحدة:
استطاع النّظام منذ مجيئه إلى الحكم تحويل الاختلاف والتّنوّع في النّسيج السّوريّ إلى إرث من الخوف والعنف مخزّن في ذاكرة كلّ الطّوائف السّوريّة دون استثناء، وجعلَه كقنبلة موقوتة فجّرها عند بداية الثّورة؛ لذلك يتحتّم علينا لأجل عيشنا المشترك، ولرأب الصّدع الحاصل في البنية المجتمعيّة، أن نبدأ بتعميق ثقافة التّسامح والمواطنة لتكون قاعدة ينطلق منها ميثاق السّلم الأهليّ السّوريّ، وأن نحوّلها إلى حقيقة عمليّة تكون نتاجاً لأبناء الشّعب بكلّ أطيافه ومكوّناته.
يعتبر التّسامح الحقيقيّ خطوة مهمّة لاستعادة الثّقة، وتحقيق الانسجام، فهو في أبسط صورة له يقوم على الإقرار بمبدأ التّعدّديّة الإنسانيّة، وقبول الآخر المختلِف في الدّين والعِرق والفكر، ويحرّر الفرد من تمركزه حول دائرته الذّاتيّة ويخرجه إلى الدّائرة الاجتماعيّة، عندما يعي أهمية العيش المشترك، والإيمان العميق بالحقوق والواجبات، كما يضمن التّسامح والمواطنة للسّوريين في المستقبل، السّيطرة وضبط الحدود الدّاخليّة بين الجماعات على اختلاف انتماءاتها العقائدّيّة والفكريّة، فليس التّنوّع في سوريا خطراً، إنّما الخطر هو التّعصّب له، فالتّسامح يعمل على إصلاح النّسيج الاجتماعيّ المتصدّع، ويساعد – ولو ببطء – على البدء ببناء الهوّية الجامعة لكلّ أطياف الشّعب السّوريّ، ويمنع انزلاقهم في نفق الانتقام.
تكفل المواطنة للسّوريين حقوقاً سياسيّة وثقافيّة ودينيّة، تكون فيه الدّولة السّوريّة وطناً مشتركاً للكلّ على اختلاف مشاربهم، بعيداً عن الطّائفيّة والمذهبيّة والعصبيّة والعشائريّة. ولإقامة دولة المواطنة يجب إيقاف رحى الحرب الدّائرة، وإحلال السّلام، والوصول إلى حلّ سياسيّ، والبدء بعمليّة العدالة الانتقاليّة، ومحاسبة المتورطين بالدّم السّوريّ، والعمل على ترسيخ التّسامح وحماية التّنوّع الدّينيّ والعرقيّ السّوريّ دستوريّاً، والانتقال من ثقافة الحروب إلى ثقافة السّلام القائمة على التّعدديّة واحترام الآخر، فالسّلام والحوار والتّسامح هي ركائز المواطنة، التي تعتبر بدورها الحاضنة للتّسامح الحقيقيّ، والمعادل الموضوعيّ له.
إنّ نشر ثقافة التّسامح ومبدأ المواطنة سيساعد في نبذ خطاب الكراهية وتراجعه، وهنا لابدّ من تحريك الإعلام، ومواقع الشّبكة العنكبوتيّة ليبتعد خطابها عن تصدير الكراهية وإثارة البلبلة، إلى خطاب يعتمد على حريّة التّعبير وصون كرامة الإنسان، ويرسّخ لمبادئ التّسامح والمواطنة لتعميق الحسّ الوطنيّ لدى الجماهير السّوريّة.
يعدُّ الحقل المدنيّ هو الأكثر ملاءمة لنشر ثقافة التّسامح والمواطنة، حيثُ تقعُ على عاتقه مواجهة خطاب الكراهية، وإعادة التّلاحم في النّسيج الاجتماعيّ السّوريّ، من خلال آليّات وبرامج توعويّة تتبنّى ثقافة المواطنة، بكلّ ما تعنيه من عيش مشترك وحرية ومساواة، وتأسيس لحوار بين السّوريين يؤدّي إلى إزالة الخوف من الآخر، فالتّسامح كما تؤكّد وندي براون في كتابها (تنظيم النّفور: التّسامح في عصر الهوّية والامبراطوريّة) يظلّ: (أسلوباً لاحتواء وتنظيم وجود الآخر، ولكن بدون الإخلال بسلطة الصّيغ والأعراف التي تهمّش الآخر).
وحدَهُ… التّسامح قادر على ضمان بقاء المجتمع السّوريّ مجتمعاً مختلطاً، والمواطنة ستسمح ببناء المصالحة والسّلام المجتمعيّ السّوريّ، وممارسة الشعائر الدّينيّة والمعتقدات السّياسيّة على اختلافها بحرية، وتضمن المساواة أمام القانون.. لاشكّ أنه عمل صعب، لكنّه ليس مستحيلاً.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني