أنسنة سوريا
من أجل هزيمة إسرائيل والإمبريالية العالمية وتوحيد الوطن العربي في دولة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، تسير عملية عسكرة الشعب السوري بطريقة مثالية غاية في الدقة، بدءاً من طلائع البعث في المدارس الابتدائية الذين يبدؤون يومهم بتحية البعث العظيم، وصولاً إلى المدارس الإعدادية التي يرتدي فيها الطلبة من بنات وبنين الملابس العسكرية الخضراء، وحتى الدراسة الجامعية، حيث يتوجب على الطلبة الجامعيين الالتزام بحصص التدريب العسكري، وما بين ذلك كله، ولكي تتخطى كل هذه الأزمات يتوجب عليك أن تكون بعثياً مخلصاً، تعبر عن ذلك بالقلم والورقة، التي تجردك من كامل مسؤولياتك تجاه البيت والأسرة والشارع، نحو انتماء جديد، هو الحزب، فتقوم بدورك الاستخباري على أكمل وجه، ضد كل معارض ولو كان من أسرتك، وبذلك تبنى سوريا الحديثة بحركتها التصحيحية المجيدة.
ولا تنسى أن ثمة دورات تدريبية للصاعقة والمظليين وغير ذلك وهي مخصصة للطلبة، ووظيفة هذه الدورات التدريبية أن تمنحك ثلاث علامات أو أكثر فوق معدلك العام في الثانوية العامة، ما يتيح لك الحصول على فرع دراسي أفضل.
سوريا كانت تكبر ويكبر جيلها القوي المؤمن بقوة البعث وعسكرة الحياة، وغير ذلك، حتى في زمن بشار الابن، الذي اختفت في زمنه الملابس العسكرية من المدارس والجامعات، ولكن الفرق الحزبية والمخابرات كانت تكبر وتتمدد أكثر في بيوت الحرم الجامعي، والمدرسة، والشارع، وكل شيء!!.
الآن وبعد أن أشرك نظام الأسد هذا الجيل بحربه التاريخية ضد الإمبريالية الأمريكية وإسرائيل من درعا إلى إدلب، بات كل ما يريده العقلاء هو أنسنة سوريا وتخليص الإنسان السوري من رواسب فكر البعث، ومن دم الحروب، وعواقب المستقبل الوخيمة.
نحو ثقافة مجتمعية جديدة:
ليس مستغرباً أن نقول إننا في سوريا أصبحنا بحاجة إلى علم اجتماع جديد، يعمل على انتزاع المؤثرات الفاسدة التي أرساها حزب البعث خلال العقود الماضية، نحو إعادة هيكلة سوريا الجديدة، وما نعنيه أن هيكلة البنى النفسية للبشر بعد الحروب قد تكون على درجة من الصعوبة، باعتبار أن أوزار الحرب غالباً ما تكون أكثر ثقلاً منها، ما يعني بالضبط أن المهمة الاجتماعية شاقة، تماماً كما هي حال البلدان المتقدمة التي وقعت على شعوبها في حقبة زمنية حروب قسرية، ولكنها نجحت في تفادي مخلفات الحرب الاجتماعية خلال فترة زمنية محدودة، وقد تكون هذه الفترة قصيرة نسبياً في سوريا، خصوصاً مع تقنية الإعلام الحديثة، التي تصل إلى مختلف الأطياف والأعمار في وقت قياسي واحد، ما يعني أن الرسالة الإعلامية في تشكيل الوعي المجتمعي ممكنة، وقادرة على اختصار الوقت والزمن للوصول إلى نتائج عاجلة.
عمق الأزمة في سوريا أن نظام البعث سار على خطى كوريا الشمالية وكامل الدول المستبدة عبر التاريخ، حيث عمل نظام البعث ومن خلال الشعارات البراقة على فصل سوريا عن العالم الخارجي، وتقديم الغرب كعدو مطلق، يتوجب الانتصار عليه، من خلال عرض سوريا كجزء من المعسكرات التي كانت سائدة في حقبة الحرب الباردة، وهي وسيلة لإغراق المجتمع بأوهام القوة، بينما في واقع الأمر كان يكمل فكرة عزل المجتمع عن محيطة الثقافي، التي بدأها من طلائع البعث وصولاً إلى مؤسسات التدريب العسكري الجامعي.
ثقافة العزلة:
كل شيء تحت السيطرة، من الكتاب والقلم والصحيفة، وتحويل المجتمع إلى طبقتين، ليس بالمستوى المادي فقط، ولكن بالأبعاد الثقافية، فهناك طبقة تسافر وتتواصل مع العالم الخارجي، وهناك قطاع واسع من الشعب، يصارع أمرين، الأول لقمة العيش، والثاني فرصة المعرفة، والتي يسحقها الفقر، ما جعل مئات آلاف الفقراء يحصلون على تعليم لا يتجاوز محو الأمية، وهو تماماً ما يشهده السوريون اليوم، فهناك جيل بأكمله يعاني أزمة الأمية، سواء في داخل سوريا، أو في بعض أماكن الشتات، نتيجة شدة العوز، التي تجعل مسألة التعليم مؤجلة إلى وقت آخر.
الخروج من الأزمة ليس أمراً معقداً، ومسألة صناعة تعليم جديد هو أمر ممكن، وربما تكون جائحة كورونا أتاحت ابتكار التعليم عن بعد، فهل يمكن للسوريين الذين يمتلكون الإمكانيات أن يتيحوا فرصة التعليم عن بعد لقطاع من السوريين همشته الحرب وأبعدته عن القلم والدفتر، عبر منصات تعليمية متخصصة للتعليم فقط.
هي دعوة إذاً، وهي تنتظر من يتبناها، ولعلنا نبدأ، فالوقت متاح.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”