أنا والمرآة
كانت الفكرة تراودني على نفسها، تكشف لي كل مثير فيها، تدخل في حياتي اليومية، وفي كل مرة ترتدي قناعاً جديداً.. استلطفتها في المرة الأولى، عرفت أني قد أتبدد أمام سحرها.. الفكرة هنا ليست امرأةً كما يتخيل بعض من يقرأ النص من سطحه.. وهي ليست مجرد تخييل أبله، كانت البداية حين أحسست باحتياج عميق للصراخ.. لم يكن لي من أصرخ في وجهه سوى مرآتي، ومرآتي المعلقة فوق مغسلة البيت تلطخ وجهها بكثير من فضلات الذباب الذي يتسلل إلى بيتي من فسحة الخراب المجاورة، كما أنها فقدت شيئاً كثيراً من انصقالها، فخسرت من أملاح فضتها ما جعل وجهي يبدو غريباً عني.. ربما لم يكن غريباً إلى هذا الحد المتخيل المرمي على سطح المرآة، هو وجهي أحتار في معرفة تفاصيله في لحظات، عكر ما يغزوه، فيصبح أنفي وكأنه طائر صغير خائف، أما عيناي فتسيل فيهما دماء باردة مما يضفي على درجة اللون شيئاً من البهاتة، الفكرة التي راودتني على نفسها استقرت أول الأمر في ذهني المتعب وانتصبت هناك على شكل سوط، وحين أردت تتبع جريانها فيّ كان وجهي مجرد جنازة لغريب، قلت للفكرة: هيا اخرجي من قيعانيّ.
سخرت الفكرة مني بابتسامة تلونت بأصفر عهدته في وجوه كثير من آدميين كانوا يرفسونني دونما معرفة مسبقة أو سبب مباشر.
في هذه اللحظة التي تشبه قاطرة موتى تفسخت لحومهم مددت يدي اليمنى إلى وجهي أتلمسه، فظهر لي وجه غريب في المرآة وقال لي: اخرج من نفسك كي تلتقي بروحك. قلت له:
لم أفهم ما تريد؟.
وقبل أن تبزغ شمس صباح اليوم باعدت بين نفسي وروحي فنبت في وجهي ألف حمامة بلا رأس، فصرخت ملء المرآة: يا الله كم أنا ميت! فبكيت، وكانت طفلة صغيرة مكفوفة البصر تنادي: جائعة والله…
نهضت عن مكاني المفترض فبصقت على المرآة وكان وجهي لايزال يذوب فيما تبقى من فضلات الذباب وانحلال أملاح الفضة.
2018
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”