fbpx

أمة من ورق

0 278

تابعت هذا الأسبوع ملامح المعركة الضارية التي شنتها على مواقع التواصل الاجتماعي جماعات سلفية هائجة من السوريين احتجاجاً على ما يسمونه فضيحة الرسوم المسيئة لرسول الله في كتب التعليم الابتدائي.

تصورت أن يكون الحدث خطيراً، والرسوم حاقدة لئيمة، وحين حصلت على النصوص المطبوعة أصابني الحزن والإحباط وأنا أشاهد أمة من ورق تستنفر في أتفه المسائل، وتشرخ وحدتها وجماعتها ولا تقبل المعاذير في مسألة سخيفة لا تتجاوز حدود الخطأ التقني المحض.

لم يكن في خلد الرسام أو الناشر أي معنى من الإساءة، والمنشور رديء وسخيف حيث قدمت لطلاب الصف الأول الابتدائي صورة لشاب بالبنطلون يحمل طفلة عائدة من المدرسة وتحتها عبارة ملتبسة: النبي يحمل فاطمة!

غاية الأمر أنه لون من خطأ التقدير واستخدام أداة توضيح فاشلة لشرح معنى نبيل، أو إيراد لتعليق في غير محله، ولا أعتقد أن في الأمر أكثر من هذا.

ولكنني أجد نفسي هنا مدفوعاً لتكرار الحديث عن هاجس المؤامرة المسكون فينا، وثقافة الريب والخوف من كل تفكير غير معتاد.

ومع أن الفريق الذي كتب اسمه على صدر الكتاب يشتمل على أكاديميين معروفين ينتمون إلى الفقهاء المحافظين الذين لا يصدرون في الفقه إلا عن رأي الجمهور ولا يبتكرون اجتهادات جديدة، ويشاركون بحماس في حملات الدفاع عن رسول الله من تلك المزنرة بعنوان إلا رسول الله، وهي حملات موسمية مخصصة لإثارة العواطف الجياشة وحشد الجماهير دفاعاً عن الإسلام ضد أعدائه، وهي تدرج بسرعة كل ناقد ومعترض ومتسائل في خانة الأعداء، ولكن هذا الفريق وجد نفسه في دائرة الاتهام إياها، وفي جرابلس تجمعت حشود غاضبة ونصبت محرقة لكتب التربية الإسلامية، وتناوب المتحدثون على كشف الخطة التآمرية على الإسلام وضلوع هؤلاء الفقهاء (المريبين) في الانخراط في المؤامرة بالتعاون مع النظام وأمريكا وإسرائيل لولا أن الله أظهر أمره وفضح المنافقين.

في الواقع لم يشتمل الرسم على إساءة مباشرة للرسول الكريم، وبدا واضحاً أن لا شيء مقصود في هذا الخطأ، ولكن حجم التعبئة الجماهيرية والفيسبوكية كان مرعباً، ومطالبات بالمحاكمة، ولا أعتقد أن هؤلاء الهائجين يفرقون بين الرسام الدانماركي وبين الرسام السوري، ولا بين شارلي إبيدو وبين مركز الدراسات الإسلامية، وتعالى الصياح على صفحات كثيرة: حاكموا أعداء الله!!

وبعيداً عن تفاصيل الحدث التي أعتبرها غير مقصودة، ولكنني حزين لهذه المعايير التي باتت تحكم وعينا في النظر إلى الماضي، بشكل يمنع أي تفكير نقدي، ويحول دون أي وعي بدراسة التاريخ بروح متحررة، بدعوى رسم مسيء للرسول الكريم، ولكن حتى على افتراض ذلك ما الذي يدعو لهذه الغضبة المضرية تهتك حجاب الشمس أو تمطر الدما؟ إنها من وجهة نظري ليست أكثر من خطأ فني كان يكفي الاعتذار منه وتصحيحه دون أن نستخرج له أيادي ورجلين، ونربطه بخيالات وافتراضات، ونعتبره جزءاً من مؤامرة كونية على الثورة والثوار والوطن والإسلام جميعاً.

وهنا أسمح لنفسي أن أصارحك بأنني من أشد المتحمسين لظهور الأنبياء الكرام وصحابتهم على منصات المسرح والسينما، ولا يوجد شرعاً ما يمنع ذلك، وإنما هو تقدير لبعض المشايخ وفتوى من هيئة علماء الشريعة السعوديين، تحرم ظهور الأنبياء والصحابة في الأعمال الفنية، ولا أشك أن هذه الهيئة تفتي دون تردد بتحريم الفن كله، وكذلك فإن الأزهر أفتى بمثل ذلك زيادة في احترام للرسول الكريم، ووقف في وجه نشر فيلم الرسالة ولا يزال يعتبره ممنوعاً رغم أنه أروع ما قدمته السينما سيرة رسول الله في العصر الحديث، ومستندهم في التحريم هو دليل المصالح المرسلة، وهو دليل اجتهادي غير نصي، يجب مراجعته باستمرار.

إن تطور الزمان ودخول عصر الصورة بقوة في الوعي الاجتماعي بات يفرض رؤية أخرى وبات من المحتم أن نقدم صور رموزنا التاريخية بكل الوسائل بما فيها الصورة والتمثال والحضور المسرحي والسينمائي، ولا أعتقد أن هذا الأمر يتطلب منا أكثر من مواجهة اجتهاد باجتهاد، فلا مواجهة هنا مع النص، بل المصلحة التي نتفاوت في تقديرها، وأنا شخصياً أقف إلى يمين المتحاورين في تأييد تصوير الأنبياء والمرسلين وتقديمهم في النصوص المسرحية بشكل يليق بدورهم ومكانهم في القدوة.

في عام 1973 أذكر أن الشيخ أحمد كفتارو أقام بنفسه حشداً كبيراً لحضور مسرحية النبي يوسف التي قدمها شباب القابون، وأدى دول البطولة فيها المرحوم غالب الرفاعي بكفاءة كبيرة، وكان يحضر كل يوم ومعه مجموعة من العمائم المعروفة، فيتحدث عن وجوب دخول هذا المعترك الفني بصورة تليق بالأنبياء الكرام، ومع أن عدداً من المشايخ اعترض ولكن ظل الشيخ كفتارو بوصفه مفتياً يؤيد الأمر بحماس وشجاعة، وأظن أن فترة نصف قرن كانت كافية لتقديم صور حضارية معبرة عن الأنبياء الكرام وأصحابهم.

لا يكفي هذا السرد السريع لتحليل قضية أساسية بحجم جواز ظهور الأنبياء والصحابة في الرسوم والمسرح، ولكنها مناسبة لإثارة المسألة، ومناسبة للتحسر على أمة باتت تحدد عدوها وصديقها بناء على رسم كرتون، ولا تتسع أفقاً ووعياً للاختلاف في شان فني محض.

لا زال أمامنا مشوار طويل حتى يأتي ذلك السوري الذي يعظم تاريخه وأبطاله باحترام وتقدير، من دون أن يحولهم إلى تابو مكهرب يحرم تصويره أو نقده، ولا يزال أمامنا جهد كبير حتى نرى الجيل الذي يحترم الماضي دون أن يحوله إلى مقدسات معبودة، يفخر بالماضي ولكنه يتوجه نحو المستقبل، وإذا كان لا بد من تقديس شيء فأنا أرى أن المستقبل وليس الماضي هو الأولى بالقداسة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني