fbpx

أسس وأركان الدولة المدنية

0 676

إن الدولة المدنية هي التي تكفل سيادة روح التعاون والتسامح وسيادة القانون، وهي التي تمنع الناس من الاعتداء على بعضهم بعضاً، كما يقول بعض مفكري عصر النهضة الأوروبية كـ “هوبز” الذي يعتقد أن الإنسان شرير بطبعه، ولابد من حل عقلي اجتماعي لكبح هذه الطبيعة الشريرة، التي تقوم على الأنانية والسيطرة وتأكيد الذات، وتستند إلى دوافع غريزية حيوانية، من خلال تأسيس أجهزة سياسية وقانونية خارجة عن تأثير القوى والنزعات الفردية أو المذهبية، تستطيع هذه الأجهزة (السلطة) – التي هي بخدمة الدولة التي تعبر عن هذا العقد الاجتماعي – أن تنظم الحياة العامة وتحمي الملكية الخاصة، وتنظم شؤون التعاقد، وتطبق القانون على جميع الناس بصرف النظر عن مكاناتهم وانتماءاتهم، وتمثل الدولة إرادة المجتمع.
يعنى ذلك أن فكرة الدولة المدنية تنبع من إجماع الأمة ومن إرادتها المشتركة، وإذ تتأسس الدولة المدنية على هذا النحو فإنها تصبح دولة توصف بأوصاف كثيرة أولها أنها دولة قانون.
فالدولة المدنية تعرف على أنها اتحاد من أفراد يعيشون في مجتمع يخضع لنظام من القوانين، مع وجود قضاء يطبق هذه القوانين بإرساء مبادئ العدل. فمن الشروط الأساسية في قيام الدولة المدنية ألا يخضع أي فرد فيها لانتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو طرف آخر. فثمة دائماً سلطة عليا – سلطة الدولة – يلجأ إليها الأفراد عندما تُنتَهك حقوقهم أو تُهدد بالانتهاك.
هذه السلطة هي التي تطبق القانون وتحفظ الحقوق لكل الأطراف، وتمنعهم من تطبيق العقاب بأنفسهم، وتجعل من القانون أداة تقف فوق الأفراد جميعاً.
ومن خصائص الدولة المدنية أنها تتأسس على نظام مدني من العلاقات التي تقوم على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات، والثقة في عمليات التعاقد والتبادل المختلفة. إن هذه القيم هي التي تشكل ما يطلق عليه الثقافة المدنية، وهي ثقافة تتأسس على مبدأ الاتفاق؛ أي وجود حد أدنى من القواعد التي تشكل خطوطاً حمراء لا يجب تجاوزها، على رأسها احترام القانون (وهو يشكل القواعد المكتوبة). وتأتي بعده قواعد عرفية عديدة غير مكتوبة تشكل بنية الحياة اليومية للناس، تحدد لهم صور التبادل القائم على النظام لا الفوضى، وعلى السلام لا العنف، وعلى العيش المشترك لا العيش الفردي، وعلى القيم الإنسانية العامة لا على القيم الفردية أو النزعات المتطرفة.
من ثم فإن الدولة المدنية لا تستقيم إلا بشرط ثالث هو المواطنة، ويتعلق هذا الشرط بتعريف الفرد الذي يعيش على أرض هذه الدولة، فهذا الفرد لا يُعرف بمهنته أو بدينه أو بإقليمه أو بماله أو بسلطته، وإنما يُعرف تعريفاً قانونياً اجتماعياً بأنه مواطن، أي أنه عضو في المجتمع له حقوق وعليه واجبات، وهو يتساوى مع جميع المواطنين. فإذا كان القانون يؤسس في الدولة المدنية قيمة العدل، وإذا كانت الثقافة المدنية تؤسس فيها قيمة السلام الاجتماعي، فإن المواطنة تؤسس في الدولة المدنية قيمة المساواة.
فالمواطنون يتساوون أمام القانون ولكل منهم حقوق وعليه التزامات (واجبات) تجاه المجتمع الذي يعيش فيه.
والمواطنون هنا يجب ألا يعيشوا كمواطنين لا مبالين، بل يجب أن يكونوا مواطنين نشطاء يعرفون حقوقهم وواجباتهم جيداً، ويشاركون مشاركة فعالة في تحسين أحوال مجتمعهم بحيث يرفعون من شأن مدنيتهم على نحو دائم، ويخلصون إخلاصاً كبيراً لكل ما هو «عام»، الصالح العام، والملكية العامة، والمبادئ العامة، فهم يحرصون دائماً على كل ما يتصل بالخير العام. ولا تتحقق الديمقراطية إلا بقدرة الدولة المدنية على تطوير مجال عام أو ميدان عام، وهو مصطلح يطلق على مجال النقاش والتداول العام الذي يحقق التواصل الاجتماعي بين الجماعات المختلفة والآراء المختلفة. ويضم المجال العام مجالات فرعية للنقاش والحوار، تبدأ من الصالونات الفكرية وتتدرج عبر الجمعيات الأهلية والمنتديات والمؤتمرات العامة وصولاً إلى النقاشات التي تدور في أروقة النقابات المهنية وجماعات الضغط والحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية. وهذا الميدان العام يحافظ على استقلاله، بحيث يكون قادراً على طرح أفكاره على نحو موضوعي ومحايد.
فالمجال العام هو الذي يلهم المجتمع الأساليب القويمة في التفكير والتدبر العام والتواصل الجمعي. إنه يحول المناقشات المتفرقة إلى مناقشات تصب في هدف عام، وتتم وفق قواعد وأصول عقلية بحيث لا يتحول النقاش إلى فوضى، طالما أنه يقوم على العقل والبصيرة والتدبر والقدرة على التفاوض وتقديم الحلول والمرونة في الاستجابة لأفكار الأطراف الأخرى.
ويتأسس المجال العام – بجانب عملية التدبر العقلي والتفاوض – على ما يطلق عليه الفعل التواصلي. وهو الفعل الذي يقوم على احترام أفعال الآخرين وأفكارهم، والاستجابة إليها على نحو عقلاني بحيث يتجه النقاش صوب المصلحة العامة دون إحداث صخب أو ضوضاء أو عنف أو تنافر أو تنابذ أو رفض.
وأخيراً، فإن الدولة المدنية لا تتأسس بخلط الدين بالسياسة، إن الدين يظل في الدولة المدنية عاملاً أساسياً في بناء الأخلاق وفى خلق الطاقة للعمل والإنجاز والتقدم، هذه وظيفة الدين في كل المجتمعات الحديثة الحرة. وليس صحيحا أن الدولة المدنية تعادي الدين أو ترفضه، فالدين جزء لا يتجزأ من منظومة الحياة وهو الباعث على الأخلاق والاستقامة والالتزام، بل إنه عند بعضهم الباعث على العمل والإنجاز والنجاح في الحياة، ينطبق ذلك على الإنسان في حياته اليومية كما ينطبق على رجال السياسة بنفس القدر.
إن ما ترفضه الدولة المدنية هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، فذلك يتنافى مع مبدأ التعدد الذي تقوم عليه الدولة المدنية، فضلاً عن أنه – وربما يكون هذا هو أهم هذه العوامل – يحول الدين إلى موضوع خلافي وجدلي وإلى تفسيرات قد تبعده عن عالم القداسة وتدخل به إلى عالم المصالح الدنيوية الضيقة، فالدين في الدولة المدنية ليس أداة للسياسة وتحقيق المصالح، ولكنه يظل في حياة الناس الخاصة طاقة وجودية وإيمانية تمنح الأفراد في حياتهم مبادئ الأخلاق وحب العمل وحب الوطن والالتزام الأخلاقي العام.
فإذا كانت هذه هي أركان الدولة المدنية فلا يصح أن نأخذ منها ركناً دون آخر، فهي أركان متكاملة متساندة، يدعم بعضها بعضاً في منظومة متكاملة تكاد تكون هي منظومة الحياة الحديثة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني