أسئلة كبرى.. في ضوء حراك السويداء
يكفي أهلنا في السويداء فضل التفكير والمبادرة لرفع الصوت، والتجرؤ على الاحتجاج في الشارع والساحات العامة، في حركة مدنية، سلمية، مطلبية، تستحق كل الاحترام والتعاطف والدعم من جميع السوريين، في مختلف مواقع تواجدهم، على امتداد ساحات التهجير والتغريب، خاصة الذين تتقاطع مصالحهم الراهنة مع أهداف الحراك ومطالبه المشروعة!
في ردود الأفعال الرسمية، من الطبيعي أن يخالف ما يحدث في السويداء، أو في أي مكان آخر من سوريا، توقعات الذين قادوا الخيار العسكري الطائفي الميليشياوي في مواجهة حراك ربيع 2011، واعتقدوا بأنهم انتصروا على إرادة الحياة، ولقنوا هذا الشعب درسا في العبودية، سيحفظه جيداً، ويتوارث “قيمه” جيلاً بعد جيل؛ فانهالوا على الحراك بسيل من التُهم، وأشكال التخوين والإدانة!
من جهة ثانية، على صعيد الوعي السياسي، ونظرية التغيير الديمقراطي، وفي إطار دعم الحراك، ومساعدة نخبه على تحقيق أهداف السوريين الراهنة، والاستراتيجية، من الضروري إعادة التأكيد على أهم حقائق الصراع ودروسه، التي تقول إن في مقدمة أسباب الانتصار، على صعيد معارك صغير تراكمية، مطلبية، أو على صعيد التحول السياسي، تأتي أولوية إنتاج الوعي السياسي الموضوعي، القائم على معرفة طبيعة العدو الذي تواجهه أهداف وقوى وشعوب التغيير الديمقراطي، في مرتكزاته المحلية والإقليمية والدولية، وطبيعة القوة الحاكمة فيه، وكيفية مواجهته؛ إضافة إلى طبيعة الحلفاء الموضوعيين، والسياسيين، وكيفية الاستفادة من تقاطع المصالح؛ وأنه، دون ذلك، يستحيل تحقيق أدنى خطوة على طريق الانتصار، على صعيد حراك محدود، كما في السويداء، أو على صعيد حركة تغيير سورية شاملة، كما كان عليه الحال في ربيع 2011؛ وهي نفس دروس هزائم ثورات الربيع العربي الأولى، والمتجددة!!
في سياقها العام، تأتي مظاهرات أهل السويداء في نفس ظروف استمرار حالة انسداد أفق الانتقال السياسي والتحول الديمقراطي، التي شكلت العقبة الرئيسية أمام حراك 2011، ووفرت لأعداء التغيير الديمقراطي، محلياً وإقليمياً وعالمياً، الفرصة لاستخدام العنف الطائفي، ودفع الصراع السياسي على مسارات التفتيت القومي والطائفي، وتحويله إلى حروب ميليشياوية، كأفضل طريق لمنع تحقق أهداف الحراك السلمي السياسية.
في سياقه الراهن، يأتي هذا الحراك السلمي العظيم لجزء من الشعب السوري على أرض الجبل الأشم في ظروف جهود كبيرة، تسعى من خلالها قوى الخيار العسكري الطائفي الميليشياوي، التي نجحت جهود خيارها العسكري الطائفي في تعويم سلطة النظام في المرحلة الأولى بين 2011-2014، ومنذ تدخل جيوش الولايات المتحدة وروسيا، لتحقيق الهدف المركزي للمرحلة الثانية، إعادة تأهيل سلطة النظام القائم، رغم ما نتج عن الحرب من تهميش وتدمير لجميع مقومات الدولة، وما يتوجبه من راهنية ومصيرية القيام بانتقال سياسي وتحول ديمقراطي كضرورة تاريخية قصوى، أصبحت الطريق الوحيد لإعادة تأهيل سوريا، على جميع الصعد والمستويات، الديمغرافية والاقتصادية والجغرافية، والسيادية.
في ضوء طبيعة عوامل السياق العام الحاكمة، ودروس تفشيل ما طرحته الحلقات العربية الأخيرة من ثورات الربيع العربي الديمقراطية في العراق ولبنان، 2019، يضعنا الحراك المطلبي/الإصلاحي لأهلنا في السويداء، (الذي تشارك فيه شرائح اجتماعية مختلفة، وحدها هاجس التدهور المريع في ظروف الحياة الاقتصادية، والأمنية، الناتجة عن سياسات حكومية، لا تخرج عن إطار نهج إخضاع السوريين، المستمر منذ 2011) أمام نفس التحديات التي واجهها الجميع في الإقليم، وفي سوريا، في إطار معركة مصيرية بين خنادق السلطات الرافضة للتغيير وشركائها، وبين الشعوب الساعية إليه، وضرورات طرح نفس الأسئلة الكبرى:
- هل تحقيق أهداف قضية الشعب السوري المركزية، العادلة( وجميع شعوب المنطقة، الخاضعة لسلطات الاستبداد، التي شكلت ادوات السيطرة الإقليمية للولايات المتحدة)، بقيام انتقال سياسي وتحول ديمقراطي، هي فقط مسألة صراع داخلية، تقتصر على موازين قوى محلية، بين شعب يرفض الاستمرار في ظل شروط فرضتها سلطة إقصائية، وبين سلطة ترفض التنازل عن أسباب هيمنتها، ومشاركة بالقرار والثروة؟.
- هل العوائق الخارجية، التي تمنع تحقيق اهداف المشروع الديمقراطي للشعب السوري و(لشعوب المنطقة)، وتثقل ميزان قوى الصراع داخليا لصالح أعداء التغيير، ترتبط فقط بمصالح وسياسات روسيا وإيران، أم ترتبط جوهريا بمصالح وسياسيات الولايات المتحدة، وأهداف وأدوات مشروعها الإقليمي، التي عملت على تثبيتها طوال صراعات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وترفض التخلي عنها لصالح أهداف وأدوات مشروع متناقض، وما تمتلكه من إمكانات القرار الفصل، بواقع كونها القوة الأعظم، وزعيمة النظام الرأسمالي العالمي، وصاحبة أكبر مشروع إقليمي في منطقتنا، وبلدنا؟.
- هل لدول وحكومات أوروبا الديمقراطية، كمجموعة، أو بشكل منفرد، مصلحة في تفشيل نضال شعوب شرق المتوسط، امتداها الطبيعي، لبناء مقومات مشروع ديمقراطي حديث، أم ما تمارسه، ويصب عملياً في خدمة أعداء التغيير السياسي الذي تقود تحالفه واشنطن، هو إرادة سياسية أمريكية عليا، لم تستطع أوروبا، منذ محاولات ديغول، الخروج من سطوتها؟.
- ألم تكن أوروبا الموحدة، الديمقراطية، هي الخاسر الثاني، بعد شعوب دول المنطقة، من تحقيق أهداف المشروع الذي تقوده الولايات المتحدة وأدى إلى هزيمة أهداف وقوى المشروع الديمقراطي، الذي أطلقت صيرورته ثورات ربيع 2011، وما نتج عنه من تثبيت أركان سلطات “النظم” الأمريكية والروسية!.
لقد أعطت كارثة الخيار العسكري الطائفي، في مواجهة استحقاقات ديمقراطية وطنية شاملة، جعل حراك السوريين السلمي في ربيع 2011 من تحقيقها إمكانية، الدرس الأقسى للسوريين، الذين ينبغي عليهم إدراكه جيداً، وفهم ما يتطلبه من مهام، وخيارات، في سياق نضالهم التاريخي.
التضامن والتقدير لحراك أهل السويداء، ومطالبه المحقة، لا ينبغي أن تغيب عن عقول المحبين والمتعاطفين حقائق الواقع العنيدة، وما يمكن أن تتيحه، أو لا تتيحه، من فرص لتحقيق أهداف الحراك السلمي المشروعة.
القضية، في النهاية، وما ينتج عنها من صراع، ومسارات الحل، تحدد مآلاتها، هي مسألة موازين القوى، ولا ترتبط بمفاهيم الحق والعدالة والمشروعية!.
في ضوء الحقائق السابقة، لا ينبغي رؤية الحراك فقط من منظور عاطفي رومانسي.
إذا كان قد حصل احتجاج السوريين في درعا على تعاطف وتأييد كبيرين في جميع مناطق سوريا، وأشعل حركة تمرد شاملة، فإن الظرف الحالي الذي يعاني من مرارته الجميع، في ظل سلطات أمر واقع معادية لآمال السوريين وتطلعاتهم، وفي ظل غياب جسم سياسي نخبوي وطني معارض، ونتيجة لتجربة سنوات الحرب، ليس من المحتمل أن يحصل حراك أهل السويداء على ما يكفي من التعاطف والدعم، حتى داخل السويداء نفسها، فقد نجحت جهود الخيار العسكري الطائفي في تفتيت البيت السوري، وتعزيز ثقافة الخلاص الفردي، وإبراز الهموم الخاصة، على حساب تنسيق الجهد الوطني، والعمل على تحقيق الأهداف المشتركة.
في هذه الظروف القاسية، ومن أجل الحفاظ على طبيعة الاحتجاج الشعبي السلمية إلى أطول فترة ممكنة، وعلى أمل تحقيق بعض المطالب الاقتصادية، التي قد تخفف من آلام السياسات الاقتصادية التي ينتهجها النظام في إطار نهج الخصخصة المدمر، ولتلبية شروط المؤسسات الإمبريالية التي يدعون مقاومتها، من الضروري جداً على القائمين على الحراك، ونشطائه المدنيين إدراك هذا السقف المنخفض، وعدم محاولات القفز فوق حقائقه، التي تعطي المتربصين به مبرر وفرصة الانقضاض عليه، وتحويله إلى صراعات ميليشياوية، تحمل أخطار مميتة على الجميع!!.
من الأفضل إبقاء الشعارات وتعبيرات الحراك المختلفة تحت سقف حقائق الوضع السياسي العام، التي لا تسمح بالخروج عن وقائع إعادة تأهيل النظام القائم، الساعية على فرض سلطته على كامل الجغرافيا السورية!.
الحسابات الخاطئة، لن تؤدي سوى إلى إعادة تأكيد دروس الصراع المستمر منذ 2011، ولن تحصد سوى المزيد من الدم والدمار!!.
السلام لسوريا، والعدالة لجميع السوريين، وشعوب المنطقة.