fbpx

أخطاء في التحليل السياسي

0 290

مع انفجار عصر المعلومات وتشكّل مجتمع المعرفة، مارس أغلب الناس التحليل السياسي، غير مميّزين الموقف السياسي من التحليل السياسي. فالموقف هو رأي مبدئي مستمد من القناعات الفكرية والضمير والوجدان وهو حق لكل إنسان في الحياة أما التحليل السياسي فهو فن وعلم معقّد يسعى إلى تفسير ظاهرة معينة أو موضوع معين، وتفكيكه لتحديد المؤثرات والأسباب بغية الوصول لفهم واضح ونتيجة تعي المتغيرات.
ولعل مدرسة التحليل السياسي العربية نشأت مشوّهة بسبب غياب التقعيد العلمي لهذا الفن، ومشاغبة التيارات السياسية، وكذلك بسبب غلبة الأيديولوجيا في مقاربة الأحداث والظواهر السياسية، ولذلك فقد التحليل السياسي قدرته على مدّ الرأي العام بالتفسير الصحيح المستند إلى المعلومة الصحيحة، والأرقام وفق قواعد هذا العلم التي لا تسمح له مطلقاً بالانزياح العاطفي ضد الحقائق، ولن أتحدث هنا عن قواعد علم وفن التحليل السياسي كي لا أحيد عن هدف المقال، بل سأحاول أن أطبّق بعض قواعده على بعض المقاربات التي أرى أخطاء التحليل السياسي فيها من وجهة نظري.
ولنأخذ أمثلةً على ذلك:
النموذج الأول في مقاربة الثورة السورية
يستسهل الكثير من القوم وصف التدخل الروسي أو السكوت الأمريكي الغربي بأنه عداء للإسلام أو للسنّة العرب، وذلك ناجمٌ عن توجّه أيديولوجي ديني يخلط السماوي بالأرضي دون أدنى فهم لطبائع الدول أو العلاقات الدولية. فالدولة لها طبيعة تشبه طبيعة الإنسان الذي تتوسع مصالحه بازدياد قوته، وتشبه طبيعة التاجر الذي كلما زاد ثراؤه زادت رغبته بإبعاد منافسيه دون الاكتراث بأصولهم أو أديانهم، وللعلاقات الدولية طبيعة تقوم على الاعتماد المتبادل أحياناً وعلى فرض النفوذ والهيمنة أحياناً أخرى. تماماً هي طبائع تشبه الغرائز الفطرية البشرية، فَعَلتها سابقا دولة روما مع العالم ودولة بني أمية مع العالم ودولة بني العباس والدولة العثمانية وكذلك دول الاستعمار الأوربي وتفعلها الولايات المتحدة.
لا مشكلة لكل من سبق مع اليهودية كدين أو المسيحية كدين أو الإسلام كدين أبداً وبتاتاً وإلّا كيف لأتباع هذه الديانات العيش بكل حرية في دول العالم المختلفة وأكثرهم يصلون إلى مناصب رفيعة في دول لا تدين بديانتهم، بل المسألة تكمن بما قد توفّره الأيديولوجيات المنبثقة عن هذه الأديان من خطر على نفوذ ومصالح الدول المتحكمة في العالم قديماً وحديثاً (هناك أسباب أخرى كثيرة بطبيعة الحال ولكن أناقش هنا مقاربة أثر الدين في سلوك الخصم).
ولذلك فحين يخذل العالم السوريين فهو لا يخذلهم لأنهم مسلمين بل لأن لديهم تيارات أيديولوجية تسعى إلى إعادة السيطرة على العالم كلّه.
النموذج الثاني في مقاربة سلوك الدولة الإيرانية
يشترك القوميون والإسلاميون وبعض اليسار في تحليل الظاهرة السياسية الإيرانية وازدياد وهجها على أنه اتفاق سرّي أُبرم بليل بين إسرائيل ونظام الملالي أو بين أمريكا والخميني في باريس، أن اذهب واحكم إيران واعمل على فكرة تصدير الثورة لإشعال حربٍ طائفية في بلاد العرب والمسلمين لتأجيج التطرف وإغراق المنطقة في الفوضى لمنعها من أي استقرار أو تنمية، فاستجاب الخميني لتلك المهمة وذهب ينفّذها بكل أمانة وإخلاص. لذلك تجد الكثيرين من المحللين السياسيين المحترفين (أعني ممن يكسبون من ورائها رزقاً) أو غير المختصين يسارعون في تكذيب حرب 2006 أو التشكيك في قضية الملف النووي الإيراني واعتبارها كلها مسرحيات لحلب العرب والخليج وما شاكلها من تفسيرات ساذجة.
لا يتجرّد المحلل السياسي من إهابه الأيديولوجي ودثاره العاطفي ليقول بأن الثورة الشعبية في إيران عام 1979 ضد الشاه جاءت صادمة للغربيين – وإن كانت متوقعة – فعملوا على توفير بديل يخرّب أهدافها وجوهرها النبيل، حيث قاموا بتلميع صورة الخميني كمنقذ مخلص للشعب الإيراني من الاستبداد والفساد لأنهم يعلمون حق العلم بحجم التطرف الديني في رؤيته الدينية للعالم التي ستجلب الفوضى للمنطقة حتماً، من هنا تم التسهيل له لحكم إيران لكثرة أتباعه والاحتفال بمشهد وصول طائرته من باريس إلى طهران، وعلى ذلك يمكن قياس الحرب العراقية الإيرانية وما تبعها من أحداث حتى اليوم.
وبالتالي فالقول إن دور إيران وظيفي لا يعني أن إيران تعمل لدى الغرب وإن كانت ماهرة في المناورات السياسية معه لإنشاء مجدها الخاص وعلمها بالخطوط الحمراء.
(ولأضرب مثالاً تقريبياً آخر، التسهيل لداعش لا يعني أنها عميلة بل لأن تمددها يحقق غايات سياسية لمن سهّل لها، وكذلك هي إيران).
النموذج الثالث في مقاربة نظرية المؤامرة
يثابر التنويريون أو المصدومون من العقل السلفي الديني والقومي أو اللادينيون والملحدون على رفض كل ما يجيء على ألسنة مخالفيهم أيديولوجيّاً من تفسير للظواهر السياسية بما في ذلك الحديث عن مؤامرة ضد البلاد العربية، محتجّين بتهافت نظرية المؤامرة وعطب حجّيتها.
والحق أن المؤامرة جزء من طبيعة الدولة ومن طبيعة العلاقات الدولية تجاه الأعداء أو الخصوم، والمتأتّية في الأصل من الغريزة البشرية.
مع الفارق بأن المؤامرات الدولية أشد شراسة من مؤامرات الأفراد وقد تكون أحياناً على حساب تدمير شعوب بأكملها.
والحال هذه، فهناك إذاً مؤامرة ضد الولايات المتحدة وأخرى ضد روسيا وواحدة ضد الصين وفرنسا وإسرائيل والبلاد العربية كذلك.
المشكلة دائماً هي في الخلط بين نظرية المؤامرة النابعة عن عقل مهووس وعاجز يفسّر حتى حركة الطير بأنها مؤامرة وبين المؤامرة ذاتها كفعل أصيل من أفعال الدولة أو طبيعة العلاقات الدولية.
من هنا نعم هناك مؤامرة على سوريا، ونعم هناك مؤامرة صهيونية ضد العرب والمسلمين. أمّا كيفية التصدي لها فذلك شأن آخر (ليس المقال معنيّا به).
أخيراً، حتما ليست هذه كل نماذج خطأ التحليل السياسي بل ربما مررت على ما رأيت كثرة الجدل فيه، ولذا من المهم أن نحرّر هذا العلم الأصيل من لوثات الأيديولوجيا وشغب السياسة وخوض غير العارفين بأصوله، لأن القراءات الخاطئة دوماً تفضي إلى سلوك سياسي خاطئ لا ينتج سوى نتائج مضادّة لمصالحنا.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني