fbpx

أثر المطامع الإقليمية والدولية على سورية والصراعات المحتملة

0 247

مقدمة:

فتحَ الصراع السياسي والعسكري في سورية إبان الثورة السورية أبواب خلخلة ركائز الدولة السورية بكل مجالاتها، هذا الصراع دفع كثيراً من الدول إلى التدخل فيه من مقدمات سياسية مختلفة، ونتيجةً لتقلص هيمنة النظام على مساحات واسعة ومناطق متعددة من البلاد، أحسّ النظام بخطر السقوط، وهذا ما دفعه إلى طلب التدخل العسكري المباشر من حلفائه، وفي مقدمتهم إيران وميليشياتها، ثمّ من الروس. هذا التدخل المباشر من حلفائه، فتح الباب لتدخلات مباشرة وغير مباشرة من دول أخرى تحت حججٍ مختلفة، منها “محاربة داعش”، ومنها دعم فصائل المعارضة المسلحة، دون السماح لأيٍ من طرفي الصراع بحسمه عسكرياً. التدخلات العسكرية والسياسية في الساحة السورية ازدادت نتائجها السلبية على البلاد عموماً، لأنها ترافقت مع تراجع دور كل من النظام السوري ومعارضته العسكرية والسياسية المشتتة في السيطرة والهيمنة. ولعلّ موقع البلاد الجغرافي لعب دوراً هاماً في استدعاء التدخلات الخارجية، فسورية “ذات موقع جغرافي يتيح منفذاً إلى البحر الأبيض المتوسط للهيئات التي ليس مخرج إلى البحر، والتي تبحث عن أسواق لمنتجاتها من الهيدروكربون، كما للدول التي تريد منفذاً إلى أوروبا دون أن تُضطر إلى المرور عبر تركيا”(1). 

الصراع السوري الذي لا يزال مستمراً كشف أساساً عن غياب التنمية المستقلة في البلاد، وكشف عن هشاشة الاستقلال الوطني، وعن جمود الفكر والثقافة، وهو من جهة ثانية كشف عن الطبيعة السياسية والاقتصادية للطبقة الحاكمة في البلاد، وهي طبقة لا تعتمد على تدعيم وتطوير الإنتاج الصناعي والزراعي، وإنما تعتمد على عمليات اقتصادية ذات طابع محدّد، وتحديداً في قطاعي السياحة والتجارة. التدخلات المباشرة أو غير المباشرة لكثير من الدول لعبت دوراً في الكشف عن مطامع هذه الدول، ومعرفة خطر هذه المطامع على وحدة وسلامة البلاد، وعلى رسم ملامح الدولة السورية القادمة.

إيران وما تبحث عنه: 

بدأ الاهتمام الإيراني بالمنطقة العربية بالتعبير عن نفسه عبر تمكّن “آية الله الخميني” وجماعته السياسية من السيطرة على مقاليد الحكم في إيران بعد سقوط الشاه محمد رضا بهلوي عام 1979، ويمكن اعتبار هذا الاهتمام بأنه مطمع إيراني يريد أن يستخدم أدوات الأيديولوجيا في السيطرة، فالنظام الإيراني الثيوقراطي يعتمد على أن “الأيديولوجيا السياسية التي اعتمدها الإمام الخميني الأساس في التوجه السياسي والاجتماعي، وأنّ هذه الأيديولوجيا سوف تبقى حيّةً في الفكر”(2).

إنّ إيران التي اعتمدت منذ بداية تسنم الخميني للحكم سياسة “تصدير الثورة” كانت تريد أن تجد موطئ قدم لها في الإقليم وتحديداً في المنطقة العربية، وتفكّر أن “تلعب دوراً إقليمياً في المنطقة العربية بطريقة مباشرة، وغير مباشرة، وبوسائل مختلفة، هذا النفوذ والتدخل يثير إشكالات عديدة، فإيران لديها أطماع قديمة في المنطقة، وتريد تحقيق (مشروعها الإسلامي( وتحقيق أهداف “الثورة الاسلامية”(3).

وإذا أردنا استعادة تاريخ أول علاقة بين نظام الخميني في إيران مع الدول العربية، سنجد أن هذه العلاقة بدأت مع نظام الرئيس السوري السابق حافظ الأسد عشية سيطرة الخميني على السلطة، فسورية هي البلد العربي الوحيد الذي أيّد “الثورة الإسلامية” والتي كانت تريد أن تجد لها موطئ قدمٍ في العالم العربي وفّره لها حافظ الأسد. وتحديداً بعد أن وجد الأسد نفسه ضعيفاً بعد أن تخلّت عنه مصر التي كان يحكمها آنذاك أنور السادات والتي وقّعت مع دولة إسرائيل اتفاقيتي كامب ديفيد عام 1979. فإيران أرادت أن تنسج علاقات متشابكة بمجالات مختلفة مع سورية آنذاك، ولعلّ العلاقة بينهما سمحت بتوطيد أسس تعاون سياسي محوره مقاومة إسرائيل، واقتصادي وثقافي وسكاني بينهما. إنّ وجود مزارات دينية “مقام السيدة زينب ومقام السيدة رقية” ساهم بتعزيز السياحة والعلاقات الاقتصادية، ولعب دوراً هاماً في توفير فرص استثمار إيرانية في سورية. هذه القاعدة من العلاقات جعلت إيران “تمتلك مصالح استراتيجية كبيرة في سورية، وهي لم تتوان عن الدفاع عنها مالياً وعسكرياً، هذه المصالح تمتد إلى مجالات الطاقة، حيث وحده نظام صديق في دمشق يقدر أن يفسح المجال أمام إيران لتوسيع نطاق صادراتها من الغاز الطبيعي غرباً في حقبة ما بعد العقوبات”(4).

إنّ إيران التي استثمرت أموالاً كثيرة منذ بداية الثورة السورية لمصلحة النظام السوري، وساهمت بقوات عسكرية وميليشيات في دعم هذا النظام، كانت تريد من ذلك ليس حماية النظام فحسب، بل الهيمنة عليه، وعلى قراراته، وفق قاعدة تأثير ميدانية، تشمل تغييرات في بنية القوات المسلحة، وفي البنية السكانية السورية، فإيران التي تعتمد مبدأ خطوط الدفاع الإقليمية تعتبر أن سورية خطاً مهماً في هذه الاستراتيجية، ولذلك يمكن التفكير بدور إيراني متصاعدٍ أكثر “ومن المحتمل أن يتصاعد هذا الدور في المعادلة السورية في ظلّ الأوضاع الراهنة، لكون سورية تمثّل حلقة رئيسية ضمن حلقات (الحزام المذهبي) المستهدف، وإعادة البناء الإمبراطوري الإيراني من جديد”(5). لقد أنشأت إيران قوى عسكرية واقتصادية موالية لها في سورية، كانت من التبعية الطائفية السورية “الشيعة – العلويون” أو ميليشيات طائفية أتت بها لبنان والعراق وأفغانستان وغيرها من الدول، وذلك لاستخدامها كأوراق فاعلة في لحظات الحاجة إليها، هذه الحاجة المستندة على رؤية استراتيجية إيرانية محددة لتنفيذ خطة تغيير التركيبة الديموغرافية للشعب السوري، وهي أصلاً جزء من خطة “تصدير الثورة” التي اتبعها النظام الإيراني منذ هيمنته على السلطة في إيران.

مستقبل المطامع الإيرانية في سورية: 

الإيرانيون ليسوا اللاعب الوحيد الإقليمي أو الدولي على الساحة السورية، فالتدخل الإيراني الذي بنى استراتيجيته في سورية كان يعتمد على تحقيق مشروعه “الهلال الشيعي”، الذي يربط برّياً طهران ببيروت ودمشق عبر بغداد. هذا الهلال يُراد منه أن يعيد إنتاج طريق تجارة دولية جديدة، تكون فيه إيران عقدة الوصل بين الغرب الأوربي والشرق الآسيوي، وتكون الحلقة اللبنانية السورية والعراقية حلقات حماية لهذا الممر التجاري الدولي. ولتعزيز هذا الممر التجاري يتطلب الأمر من إيران إحداث ركائز دفاعية ثابتة تحمي هذا الخط وترتبط به بعلاقات وثيقة. لذلك لجأت إيران إلى سياسة الاعتماد على أمرين أساسيين “الاعتماد على الشيعة العرب كركائز للمشروع الإيراني، أو القيام بعمليات تشييع للسكان مستغلةً الظروف العسيرة للسكان “السُنّة”. وهذا يترافق أساساً مع نفوذ قوات إيرانية وميليشيات شيعية على الأرض السورية، مع الحفاظ على هوية النظام الشكلانية لتنفيذ المآرب الامبراطورية التي تخصّ ذهنية الثيوقراطية الإيرانية. وباعتبار أن الإيرانيين ليسوا اللاعبين الوحيدين على الساحة السورية بعد سلسلة التدخلات الإقليمية والدولية (الروسية – الأمريكية – التركية – الإسرائيلية) فإن الدور الإيراني المرسوم وفق الاستراتيجية الإيرانية يبدو أنه في طور صراع بين الأفول والثبات مع ترجيح واضحٍ للأفول بسبب الإصرار الإسرائيلي على منع وجود إيراني عسكري في الساحة السورية، والمقصود عسكرياً هنا هو وجود قوات الحرس الثوري، وقوات ميليشيات حزب الله اللبناني وباقي الفصائل العسكرية الشيعية القادمة من خارج الحدود. إنّ المطامع الإيرانية في السيطرة على سورية كحلقة من حلقات مشروعها الإمبراطوري يصطدم بعوامل كثيرة، منها غياب الحاضنة الشعبية الاجتماعية المؤيدة لإيران في سورية، فالحاضنة العامة السورية لا تريد هيمنة إيرانية أو وجوداً إيرانياً فاعلاً. كذلك المطامع الإيرانية تتعارض بصورة أكيدة مع مطامع باقي الدول الفاعلة في الصراع السوري. وهذا كاحتمال يفتح بوابات صراع لاحقة، وإذا ما اعتمدت السياسة الأمريكية الجديدة بطاقمها (ترامب – بومبيو – بولتون) سياسة طرد إيران من الإقليم وتحميلها عبء كل التدهور الأمني والعسكري في المنطقة، فإن هذا الجهد الأمريكي ربما يتقاطع مع جهود إقليمية أخرى “إسرائيلية/تركية” إضافة إلى الجهد الروسي، فتتفق كل الجهود على اعتبار الوجود الإيراني في سورية يشكل خطراً على الجميع. إنّ قبول إيران بدور محدود في الساحة السورية يتناقض كلياً مع جوهر بنية النظام الإيراني المبنية على التوسع والهيمنة وبناء الإمبراطورية الإيرانية.

إسرائيل ومطمع الجولان:

يمكن الحديث عن جملة مطامع إسرائيلية في سورية، وتحديداً في الجولان المحتل، فإسرائيل تنظر إلى هذا البلد ليس من شرفة نظامه السياسي الحالية “النظام السوري الذي أسسه حافظ الأسد”، بل تنظر إلى المستقبل البعيد، الذي قد يغير من بنية المجتمع السوري السياسية والاقتصادية، ما يشكّل لاحقاً تهديداً جدّياً لوجود الدولة العبرية. إن إسرائيل التي احتلت منطقة الجولان السوري إثر حرب حزيران عام 1967، عملت منذ البداية على تهويد المنطقة التي نزحت عنها غالبية سكانها، وقد اتخذت إسرائيل قراراً صادراً عن برلمانها “الكنيست” ينصُّ على ضمّ الجولان السوري المحتل إلى الدولة العبرية”(6). لكنّ مجلس الأمن الدولي رفض الإجراء الإسرائيلي واعتبره باطلاً، إذ أصدر المجلس القرار 497 بتاريخ 17 ديسمبر/كانون أول عام 1981(7). إنّ إسرائيل ترى في الجولان السوري المحتل منطقة استراتيجية متعددة الوظائف، فالجولان منطقة مرتفعة تشرف على ثلاث دول متجاورة هي (لبنان – فلسطين – سورية)، وبالتالي فالسيطرة عليها تعني سيطرة عسكرية وأمنية بامتياز. كذلك فإنّ غنى منطقة الجولان بالمياه العذبة الصالحة للشرب وللري الزراعي يجعلها هدفاً حيوياً ووجودياً للدولة العبرية. إنّ “الجولان هي الهدف البعيد رغم أن سورية حتى قبل سقوطها في مستنقع الحرب الأهلية كانت فاقدةً لأية قدرة عسكرية لشن حربً ضدّ إسرائيل بهدف استعادة هضبة الجولان المحتلة. إلا أنّ الدولة العبرية كانت تُدرك أن ذلك لن يرتب تغييراً في وضعها كأراضٍ محتلة وفقاً للقانون الدولي”(8).

إنّ مصلحة إسرائيل تتمثل بمطامعها بالسيطرة النهائية على منطقة الجولان، وسلخ هذه المنطقة عن وطنها الأم، ولكي يتحقق ذلك تسعى إسرائيل إلى إبقاء الحريق السوري مشتعلاً ضمن حدود ضبطه عسكرياً، وكذلك فالمطامع الإسرائيلية تتحدد بطرد الدولة العبرية لإيران وميليشياتها من هذه البلاد، وبمحاولة إبقاء المعادلة السياسية في سورية معادلة غير مستقرة، من خلال تشجيع تقسيم البلاد، وإعادة إنتاج وحدتها عبر فيدرالية تكون مهيّأة لعمليات صراع سياسي أو انفصالي عن البلاد. اهتمام إسرائيل يتركز على بقاء حدودها الشمالية آمنة، وعلى بقاء جارتها الشمالية “سورية” بلداً ضعيفاً عاجزاً عن تهديد أمنها لاحقاً. 

لكنّ إسرائيل لا تنظر إلى المنطقة العربية من خلال سورية فحسب، بل هي تريد أن تكون قاطرة المنطقة الرئيسة، تتحكم باقتصاداتها، وبتطورها، من خلال مشروع طرحه ذات يوم الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريس(9). المشروع المعني يربط المنطقة اقتصادياً بشبكة تحكمٍ رئيسية عبر التقانة المعلوماتية، وبما يخدم دور الريادة الإسرائيلية على كامل المنطقة، ولهذا تعمل إسرائيل على إخراج إيران من سورية ولبنان لأنها تجد في هذا الوجود تهديداً استراتيجياً لمشروعها، وبالتالي لوجودها.

خطط تعمل عليها إسرائيل:

عين إسرائيل لا تنام عن الصراع في سورية، وهي تجنّد كل طاقاتها الاستخباراتية والتجسسية لرصد كل تطور ولو بدا صغيراً في هذا البلد، وإسرائيل تفعل ذلك مع ممارسة ضغوط سياسية على حلفائها بغية عدم ترك هذه الساحة للعب قوى معادية، وتعمل إسرائيل على ذلك عبر خطط تهدف إلى جعل كل ما يلي صالحاً “لضمان الهدوء الأمني والاستقرار في الجبهة الشمالية، ومنع استقرار إيران السياسي والعسكري وأذرعها في سورية، وتقليص تأثيرها على بلورة سورية من الناحية الجغرافية والحكم والعسكرية، والحفاظ على تفاهمات استراتيجية وتنسيق عسكري مع روسيا”(10). 

الأهداف الروسية في سورية:

تبدو روسيا بصفتها دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي دولةً منافحةً بقوة عن سلوك وبقاء النظام السوري حيال دوره الدموي في الصراع الدائر في البلاد، فالروس منذ بداية الثورة السورية لعبوا دوراً سلبياً حيال احتواء الاحتجاجات الشعبية التي كان سقفها الأول بضع إصلاحات ضرورية، كان بإمكان الروس في تلك الفترة أن يضغطوا على النظام للاستجابة إلى بعض المطالب الشعبية، ولكنهم لم يفعلوا ذلك لحسابات سياسية خاصة بهم. فالروس لديهم نظام حكم شبيه بالنظام السوري وببنيته الأمنية، وهم لا يريدون تغييرات سياسية تجيء بقوى لا تجمعهم بها علاقة من قبل، تنسف علاقتهم التاريخية مع هذا النظام. إضافة إلى خوفهم من تحوّل هذا البلد إلى حليف جديد للغرب. المصالح العسكرية الروسية لا تنحصر بالجانب العسكري اللوجستي، وإنما تتعداه إلى اعتماد جيش النظام السوري على العقيدة العسكرية الروسية، من حيث التسليح والتدريب، إضافة إلى أن الروس ساهموا من قبل في بناء البنية التحتية السورية مثل السدود والخطوط الحديدية…الخ. هذه العوامل جعلت روسيا تُمسكُ بالورقة السورية، وتمنع اتخاذ أي قرار دولي بحق نظام حكمها، وعليه فإن “أهم الدوافع وراء الموقف الروسي في مجلس الأمن وسواه من المحافل الدولية هو المصلحة الروسية في المتوسط، وكذلك ما اعتبرته روسيا خدعة تعرضت لها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول الحلف الأطلسي بشأن قرار مجلس الأمن في إجازة التدخل الإنساني في ليبيا”(11).

إن السياسة الروسية التي تدخلت بشكل مباشر وعملي في الصراع السوري في الربع الأخير من عام 2015 كانت تريد من تدخلها منع سقوط النظام السوري، والإمساك بالورقة السورية كورقة تفاوض سياسي مع الغرب، وللحفاظ على هذه الورقة استخدم الروس أسلوب “الصدمة النارية الكبرى” مع فصائل المعارضة في كل منطقة على حدة، بحيث تقوم قواتهم الجوية بقصف مدمّر لكل شيء في المنطقة التي توجد فيها هذه الفصائل، هذا الأمر نفذوه في حلب ثم في حمص وفي الغوطة الشرقية، وإلى جانب أسلوب الصدمة النارية فتحوا الباب لمسار تفاوضٍ جانبي أطلقوا عليه اسم “مسار أستانا”، والذي نتج عنه ما سُميَ “مناطق خفض التصعيد والتوتر”، والذي انضمت إليه تركيا وإيران. ويبدو أن مسار أستانا كانت الغاية منه اشتقاق مسار تفاوضي بديل عن مسار جنيف، المرتكز على القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي الخاصة بالصراع السوري. وأن خطوة “سوتشي” اللاحقة له كانت تذهب في هذا الاتجاه، وهو الأمر الذي يكشف أن الروس جادون في الإمساك بالورقة السورية لتحقيق أهداف متعددة من خلالها. إنّ “مصلحة روسيا هي في صمود سورية وبقائها وانتصارها، وإلا خسرت موقعها في شرق المتوسط، وبالتالي خسارة المشروع الأوراسي”(12)

المطامع الروسية في سورية:

الانخراط الروسي الكبير في الصراع السوري هو بصورة أخرى يُقرأ باعتباره استثماراً سياسياً بطرق متعددة، منها التدخل العسكري المباشر، ومنها فتح باب تصدير الأسلحة الروسية إلى منطقة الصراع، وكذلك توسيع النفوذ الروسي في هذا البلد مع تراجع نفوذ سلطته الحاكمة، التي دخلت صراعاً دامياً مع شعبها. ولكن لا يمكن للروس تحقيق أهدافهم، وكأنهم الطرف الوحيد في هذا الصراع إلى جانب النظام، فهم يدركون مغزى الوجود الإيراني، والذي يشكل منافساً حقيقياً لمصالحهم في سورية. الانخراط الروسي في الصراع السوري حوّل الروس إلى طرف أساسي فيه، فهم يعتقدون “أن ضمان أمنهم الداخلي من المسلمين في بلادهم، وتوسيع اقتصادهم عبر الوصول إلى الشرق الأوسط، وتحسين وضعهم الجغرافي والسياسي على حساب الولايات المتحدة سيؤدي كل ذلك إلى تحسين موقع روسيا الجغرافي السياسي في الإقليم بعد الحرب السورية، خصوصاً بعد إرسالهم لقوتهم الجوية إلى سورية عام 2015(13). وهذه المعطيات مجتمعة تشكلّ أساساً للأهداف الروسية في سورية.

إذاً يمكن القول إن المطامع الروسية ذات طبيعة سياسية استراتيجية وعسكرية اقتصادية في جوهرها، ويمكن فهم تحقيق هذه المطامع عبر تثبيت الوجود العسكري الروسي في قاعدتي طرطوس البحرية وحميميم الجوية، حيث تؤدي هاتان القاعدتان مهمة الحفاظ على المصالح الروسية التي تنطوي على مطامع حقيقية تتعلق بنفوذ عسكري وسياسي في هذه المنطقة الاستراتيجية. لقد “بلغت استثمارات روسيا في سورية عام 2009 حوالي عشرين مليار دولار، وأهم المجالات الاقتصادية المدنية التي كانت تخدم المصالح الروسية في سورية هي مجالات التنقيب عن النفط والغاز وإنتاجهما، (شركتا تاتنفت – سويوز فتغاز)(14).. إنّ التدخل الروسي القوي في الصراع السوري يمكننا أن نفهمه على أنه “ضربة استباقية لإحباط الترتيبات التي يعتقد الروس أن بعض الدول الإقليمية بدأت تجهّز لها في الميدان السوري، كما تهدف تلك الضربة أيضاً إلى تثبيت وجود روسيا على القوة الدولية، وتبعث برسالة للقوى الإقليمية والدولية مفادها أنها لن تسمح لأحد بسحب البساط من تحت أرجلها”(15). هذه السياسة الروسية هي محاولة جادة للإمساك بدفة الصراع في هذا البلد وتوجيهها بما يناسب المصالح الروسية الاستراتيجية الأمنية دون تورطها في نزاعات طويلة الأجل تستنزف طاقاتها واقتصادها.

السياسة التركية نحو سورية: 

تتمثل السياسة التركية بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في أنقرة عام 2002 بنقاط أساسية، أهمها أن تركيا ترغب ببناء سياستها في محيطها الجغرافي بطريقة أطلقت عليها “صفر مشاكل”، إذ إنها تتوسط ثلاث مناطق هامة على الخارطة الدولية هي (منطقة الشرق الأوسط – منطقة البلقان – منطقة القوقاز) هذه المناطق تشكل عملياً عمقاً استراتيجياً للدولة التركية، ويمكن أن نسميه “مجالها الحيوي”. وبالتالي فأنقرة مرتبطة بشكل مباشر بمكانتها وسط هذه المنطقة، ولا يمكنها إهمال أية أحداث قد تنشأ فيها، ما يؤثر على استقرارها السياسي ونموها الاقتصادي بشكل عام. وحين تفجّرت الثورة السورية عام 2011 كانت علاقات تركيا بالنظام السوري علاقات متقدمة على كثير من الصُعد، وقد حاولت الحكومة التركية إقناع النظام السوري بالاستجابة لبعض مطالب المتظاهرين منعاً لتدهور الأوضاع، لكن النظام ضرب عرض الحائط بهذه النصائح، ما دفع الدولة التركية إلى الوقوف مع الثورة السورية كقوة داعمة. إنّ من أسباب دعم تركيا للثورة السورية هو العامل الأيديولوجي، فالدولة التركية يهمها صعود التيار الإسلامي “الإخوان المسلمين” لقيادة اتجاهات الثورة السورية، لأنها تنتمي إلى ذات الأيديولوجيا الدينية والسياسية رغم عدم تبنيها ذلك علناً كذلك من أسباب دعم تركيا للثورة السورية رغبتها في الحصول على موقع “القوة الإقليمية الرائدة بشكل سريع”، ووجود حدود طويلة تمتد إلى طول 911 كم، إضافة إلى رغبتها في الاستفادة من الدعم الخارجي لثورات الربيع العربي “سياسة كسب المواقف”(16).

إنّ تدفق اللاجئين السوريين الكبير على الدولة التركية وضعها في حالة جديدة، تتعلق بمجريات ونتائج الصراع السياسي في سورية بعد التدخلات الإقليمية والدولية في هذا البلد. كانت ثمة عوامل متعددة تختفي خلف الموقف التركي الذي يترافق مع موقف إعلامي غير حقيقي، فالأتراك يخشون من تنامي الدور الكردي في سورية الذي يمثله حزب PYD وتأثيره على أمنهم القومي، لأن المشكلة الكردية داخل تركيا لم تجد بعد حلاً سياسياً حقيقياً يوقف النزاع المستمر منذ أكثر من ثلاثين عاماً بينهم وبين حزب PKK الكردي. “إنّ أنقرة تُعدُّ منطقة الشرق الأوسط منطقة نفوذ لها وتقوم انطلاقاً من ذلك بالتواصل مع النخب والشوارع العربية، فهي لا تحتاج إلى منافسين ولا سيما في البلدان الخارجية”(17).

لكن التدخلات الإقليمية والدولية في الصراع السوري جعل السياسة التركية سياسة حذرة تعمل أنقرة على أن تجد فيها نقاط توازن دقيقة لها. ومع ذلك تُتهمُ السياسة التركية بأنها سياسة منحازة إلى جماعات إسلامية وفي مقدمتها جماعة “الإخوان المسلمين”.

سورية مجال حيوي لتركيا:

ينظر الأتراك إلى سورية نظرة خاصة تختلف عن نظرتهم إلى باقي دول إقليم الشرق الوسط، فسورية تدخل وعبر التاريخ العثماني للدولة التركية في علاقة قربى وعلاقة دينية، إضافة إلى أن سورية تشكل بوابة عبور حقيقية لتركيا نحو العالم العربي، ولهذا يهتم الأتراك ببناء هذه العلاقات بشكل وثيق. وتبقى رهانات السياسة التركية في سورية تدور حول “كسب حلب بثقلها التاريخي والاجتماعي والاقتصادي ومركزها الجغرافي، ومنع تبلور وتقدم القضية الكردية، وقد فشلت بسبب الطموحات الواسعة والرهانات العالية للحكومة التركية على استغلال الأزمة السورية لصالح الرؤية التوسعية للقيادة التركية”(18).

لقد اصطدمت سياسة أنقرة بعوائق محلية وإقليمية ودولية كثيرة، كبحت المخططات التركية المرسومة وطموحات أردوغان الجامحة، وعلى رأسها تحكم لاعبين دوليين أكبر من تركيا بالساحة السورية، وصمود النظام بفضل الدعم الإيراني والروسي الهائل”(19).

إن دراسة السلوك التركي تجاه سورية، وتحديداً بعد دخول القوات التركية إلى الأراضي السورية بعد عمليتي “درع الفرات وغصن الزيتون”، إضافة إلى إصرارها على طرد قسد من منبج، وسحق حزب PYD يكشف عن نوايا تركية لا تتركز في سحق هذا الحزب الكردي، وإنما يكشف عن ترسيخ نفوذ سكاني سياسي عسكري في مناطق الشمال السوري بما فيها منطقة إدلب وفق تقاسم النفوذ الدولي الذي نشأ عن “مسار أستانا”.

الأتراك يجدون في سورية بوابة حقيقية لإعادة إنتاج الدولة العثمانية الجديدة، وهم يعتمدون في ذلك على قوى ذات أيديولوجية ما قبل وطنية، وبالتالي فهم يساهمون في إبقاء حدّة الانقسامات الوطنية على حالها انطلاقاً من رؤيتهم الأيديولوجية الإسلاموية. إنّ خطر المطامع التركية في سورية لا يختلف كثيراً عن خطر المطامع الإيرانية، لا بل يتفوق عليه بعامل الأيديولوجية، وهذا ما سعت إيران إلى تغييره عبر عمليات التهجير والتغيير الديموغرافي.

الدور الأمريكي المعطّل:

أمام حالات التجاذب الإقليمية والدولية الجارية على السورية لا ينبغي نسيان الدور الأمريكي الذي لعب دوراً مضللاً بالمعنى السياسي منذ تفجّر الصراع في سورية. ويبدو أن الموقف الأمريكي ليس مرتكزاً بعد على رؤية استراتيجية تعتمد على توظيف الحلقة السورية ضمن معادلات الصراع التي تخوضها الولايات المتحدة في المنطقة أو في آسيا. فالتردد الأمريكي حيال رسم استراتيجية ذات ملامح حقيقية سمح للأدوار الإقليمية إضافة إلى الدور الروسي بدورٍ أوسع، ما قد يُفضي في مرحلة من المراحل إلى أن يجد الأمريكيون أنفسهم ضمن معادلات راجحة لقوى ذات أهداف متناقضة مع المصالح الأمريكية في هذا الإقليم الهام.

التراجع الأمريكي نسبياً أمام الضغط التركي يُنبئ عن حسابات أمريكية جديدة بعدم ترك الورقة التركية الفاعلة سورياً بعيدة عن مجالات تفاهماتهم، وبالتالي محاولة تقليص الأثر الروسي على هذا الدور.

إن المطامع الإقليمية الدولية في سورية ستبقى محور صراعات حالية وقادمة ما لم تستطع قوى وطنية سورية من إعادة النظر باستراتيجياتها السياسية السابقة حول طبيعة الصراع في سورية وطرق إدارته. وهذا يحتاج إلى زمن آخر لن يأتي قبل أن تستكمل دورة الصراع على سورية أشواطها في هذا البلد، وتُنتجُ معادلةً سياسيةً قد تشكّل محور سياسات جديدة لإقليم الشرق الأوسط برمته.

ثبت بالمراجع: 

1- مركز كارنيغي للشرق الأوسط – Carnegie

2- المركز الديمقراطي العربي democraticac.de الاتجاهات العامة للمصالح الإيرانية 25/يوليو2016 – دينا محسن محمود عبده

3- المصدر السابق

4- مركز كارنيغي للشرق الأوسط – Carnegie 

5- www.almowaten.net مطامع إيران في سورية تتلاشى 6/8/2017 

6- عرب 48 arab 48 31/10/2010 

7- الجزيرة نت www.aljazeera.net 3/5/2016 الجولان المحتل – قرارات أممية وصمم إسرائيلي 

8- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية acpss.ahram.org.eg سعيد عكاشة – مكاسب إسرائيل من الصراع في سورية 29/مارس2016 

9- www.vetogate.com 28/10/2017 

10- الشرق الأوسط الجديد د. عمرو الديب 

11-الأخبار alakhbar.com داود خيرالله دور العناصر الأجنبية في الأزمة السورية 4 نيسان 2012 

12 – Arabic.sputniknews.com خفايا مشاريع اقليمية ودولية متضاربة في سورية – سومر صالح ضيف حلقة 12 فبراير 2018 

13 – www.alaraby.co.uk العربي الجديد- المعركة من أجل سورية 27/7/2017 هاني الحوراني

14 –www.aljazeera.net المصالح الروسية في سورية 13/2/2012 تقارير

15 www.aljazeera.net الحرب الروسية في سورية حدودها ومداها 4/10/2015 

16 – democraticac.de السياسة التركية حيال الأزمة السورية 3 يونيو 2017 جلال السلمي

17 – Arabic.rt.com 20/2/2018 

18 www.alhayat.com الحياة – القضية الكردية في سياسة تركيا السورية – بدرخان علي

19 – المصدر السابق.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني