fbpx

أثر ابن رشد في حوار الحضارات

0 435

يُعدّ ابن رشد نقطة تحوّل شاهدة على انحدار الفلسفة العربيّة القديمة، بعد أن وصلت إلى ذروتها؛ ومتكأً مهمّاً لانطلاقة الفلسفة الغربيّة الوسيطة التي استفادت من سالفتها عبر ابن رشد الذي تأثّر به الاكويني وبيكون وسبينوزا وليبنتز وغيرهم كثيرون.

عُرف ابن رشد بالشّارح، وهو اللقب الذي أطلقه عليه دانتي في الملهاة الإلهيّة، نظراً إلى جهوده في شرح أرسطو.

ولكنّ فيلسوفنا لم يكتفِ بالشرح، بل تعدّاه إلى قيادة معركة ضروس في مواجهة عداء الفلسفة وتحريم الاشتغال بها. وإبّان الحملة التي شنّها الإمام الغزالي على الفلاسفة في كتابه تهافت الفلاسفة؛ لم يكن من ابن رشد إلاّ التصدي، حيث تبنّى الدفاع عن الفلاسفة في تهافت التهافت الذي حاول أن يفنّد فيه آراء الغزالي، ليبرّئ الفلاسفة، ويعيد إلى الفلسفة مكانتها، متابعاً خطّ ما جاء في كتابيه الآخَرين:

فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتّصال ومناهج الأدلّة في عقائد الملّة.

لقد حاول ابن رشد، في مجمل أعماله، إزالة التعارض بين الدين والفلسفة، لأنّه يعتقد أنّهما ينشدان حقيقة واحدة، وإن اختلفت طريقة الوصول إليها.

وكانت فلسفته ردّاً على الأفلاطونيّة التي تعتقد أنّ المعرفة تذكّر، فبرهن – متوسّلاً أفكار أرسطو – بأنّ المعرفة تحصيل إنساني يتمّ من خلال اكتشافات متلاحقة لظواهر العالم. وقد ساعده على إتمام مشروعه، عمله قاضياً وفقيهاً، تعوّد الحكم بعد البحث والتنقيب والتحليل. وقد استدلّ على وجوب الأخذ بالنظر العقلي من القرآن الكريم، وحاول إيضاح القواعد التي يجب أن يتّبعها الإنسان في تأويل ما يحتاج إلى ذلك من أقوال الشرع، لإظهار الصلة بينه وبين العقل.

ابن رشد يُعاد اكتشافه، على المستوى العالمي، من جديد؛ وتُعاد قراءته في ضوء المتغيّرات الفكريّة العربيّة، حيث يجري استحضاره بوصفه ممثّـلاً للعقلانية والمنهجية في الفكر العربي القديم، فضلاً عن أن المشكلات التي طرحها، منذ ثمانية قرون، لاتزال مطروحة حتى اليوم، ويمكن تلخيصها في سؤال أساسي: كيف يمكن أن تكون العلاقة بين الديني والفلسفي؟

ولد ابن رشد في قرطبة في ظل الدولة الموحّدية التي كانت تحكم الأندلس، عمل في قضاء إشبيلية ثم قرطبة، وأصبح رئيس الأطباء في مرّاكش بعد ابن طفيل . وكان عام /1195م/ نقطة تحوّل سيئة في حياته، حيث صادر السلطان المنصور كتبه وأحرقها، ونفاه إلى أليسانة قرب قرطبة، نتيجة وشايات الحاسدين. وبعد ثلاث سنوات أدرك الخليفة غلطه، فأعاد الاعتبار إلى ابن رشد الذي لم ينعم بعودته إلى مرّاكش سوى أشهر توفي بعدها في الشهر الأخير من عام /1198م/ وله من العمر اثنتان وسبعون سنة، تاركاً خلفه أكثر من مائة كتاب، أكثرها في الفلسفة والعلوم الإلهية، وبعضها في الطب والفقـه والنحو واللغة والأدب وقد التهمت النار معظمها.

* * *

وقد أثّر ابن رشد في تاريخ الفكر الأوربي، فقد أخذ اليهود شروحه وترجموها إلى العبرية أو عملوا منها ملخّصات، وكانت هذه الترجمات والمختصرات العماد الأكبر الذي بُني عليه العلم العبري ابتداءً من القرن الثالث عشر الميلادي. كما كان لفكره أثر عظيم في الحركة الاسكولاستية النصرانية، وما زالت آراؤه تحدث هزّة عميقة في الفكر الأوروبي بين معارض ومؤيّد. وقد أصبحت الرشدية شعاراً للعقلانيّة والدعوة إلى الحدّ من نفوذ الكنيسة، ولم تعد الرشدية وقفاً على جامعة السوربون في باريس، وإنّما انتقل وهجها إلى إيطاليا وانكلترة.

يبحث ابن رشد في كتابه فصل المقال، في التوفيق بين الدين والفلسفة، ويحمل الأساس النظري للتأويل وفق المبادئ الآتية: 

1- إن الدين على وفاق مع ما يقرره العقل، إما بدلالته الظاهرة وإما بتأويل.

2- إن القرآن الكريم يفسّر بعضه بعضاً لنصل إلى المعنى الموافق للعقل. 

3- لابد من الفصل بين ما يُؤوّل ومالا يُؤوَّل. والأمور التي لا يجوز التأويل فيها هي: الإقرار بوجود الله وبالنبوة وباليوم الآخر، أمّا ماعدا ذلك فقابل للتأويل بشروط، هي:

أ- احترام خصائص الأسلوب العربي في استخراج الباطن من الظاهر. 

ب- احترام الوحدة الداخلية للنص الديني.

 ج- مراعاة المستوى المعرفي لمن يُوجّه إليه التأويل.

وذلك كلّه من أجل التمييز بين ما هو حقيقة وما هو مجاز في النص الديني.

إنّ لكلّ من الدين والفلسفة كيانه الخاص، ومنهجه المستقل؛ ولكنهما يرميان إلى هدف واحد هو معرفة الحق “والحقّ لا يُضادّ الحقّ بل يوافقه ويشهد له” على حد تعبير فيلسوف العقل ابن رشد.

أمّا التناقض أو التّضاد بين الدين والفلسفة، إنّما مردّه إلى الفقهاء والفلاسفة، الذين اتّبعوا طريقة الاستدلال بالشاهد على الغائب، تلك الطريقة التي تجمع بين عالمين مختلفين تماماً، عالم الطبيعة، وعالم ما بعد الطبيعة؛ مع أنّـه لا يجوز قياس عالم الغيب المطلق على عالم الشهادة المقيّد.

وقد أُنتج مؤخَّراً فيلم المصير للمخرج يوسف شاهين دار حول حياة ابن رشد، وحين أراد المخرج إظهار تقدميّته عارضه بفقهاء أصوليين سحبت عليهم سمات الأصولية المعاصرة(!)، وجعله يرتع بين الحمّام والخمّارة بصحبة أناس مشبوهين يحملون أسماء عبريّة، يحاربون من أجل حريّة الغناء(!).

إن عقلانية ابن رشد تفصل بين الدين والعقل بتحديد مجالات النظر فيهما، وتبرهن على انفصالهما وليس على تناقضهما. فالمعرفة الدينية تستند إلى النص، والمعرفة العلمية تقوم على البرهان العقلي التجريبي.

وبالرغم من أن ابن رشد كان فيلسوفاً وفقيهاً وطبيباً، فإنّه وعى هذه المسألة وكان يفصل بين الميادين الفكرية المختلفة، حيث يستشهد بالقرآن الكريم وبالرسوم الأعظم في الخطاب الديني، وبجالينوس في مجالات الطب (ولا يخلط شعبان برمضان، كما يفعل حتى الآن بعض معاصرينا).

شرح فيلسوفنا أرسطو كما ترجم جالينوس، لكن شرحه لأرسطو لم يُثنه عن مخالفته، فالأورجانون الأرسطي آلة المنطق الصوري المجرّد من المحتوى، وهو استنتاجي معياري أحكامه وجوبيّة، خالفه ابن رشد بإرهاصات حول منطق العلوم التطبيقي الاستقرائي ذي الأحكام الوجودية. فعقلانية أرسطو قاصرة، بينما عقلانية ابن رشد تقوم على البرهان، وتجلى ذلك في كتابه الكليّات في الطب حيث أكّد على الأقاويل البرهانية العلمية، وأهمل ما عداها.

لقد طلب أبو يعقوب يوسف الموحّدي من ابن رشد أن يلخّص جالينوس، فانشغل بالتأليف والتنظير والتلخيص، ومع ذلك فإن معلومات ابن رشد التشريحية تدلّ على أنّه مارس التشريح، وله قول في ذلك أنّه كلّما تعمّق في التشريح ازداد إيماناً.

وقد تصدّى ابن رشد لمذهب جالينوس القائل إن الكبد هو مركز القوة الغاذية في البدن، وهو الذي يزوّد البدن بالقوّة والأبخرة، لكن ابن رشد أدرك أن القلب هو المركز وهو رئيس الكبد لأنّ التشريح يُظهر أن الأعضاء كلّها تتصل بالقلب عن طريق الأوعية.

وهكذا تصدّى ابن رشد للمقدّسات النظريّة في الطب في زمانه، فاقتحم آفاقاً جديدة توضّحت أهميّتها بعد قرون على يد فرنسيس بيكون الذي وضع أسس التجربة العلميّة في المعرفة.

ونورد فِقرة من مقدّمة الكليّات في الطب للتعرّف على منهج ابن رشد في التأليف: “إن صناعة الطب هي صناعة فاعلة تصدر عن مبادئ صادقة، يُلتمس بها حفظ بدن الإنسان، وإبطال المرض. وهذه الصناعة ليس غايتها أن تُبرئ ولابُدّ، بل أن تفعل ما يجب، وفي الوقت الذي يجب، ثم تنظر في حصول غايتها، كالحال في صناعة الملاحة وقيادة الجيوش”، “الصنائع الفاعلة تشتمل على ثلاثة أشياء: أحدها معرفة موضوعاتها، والثاني معرفة الغايات المطلوب تحصيلها، والثالث معرفة الآلات التي تحصل بها تلك الغايات في تلك الموضوعات..”.

إن فضل ابن رشد يكمن في تحديده وفصله بين مجالات المعرفة المختلفة، وفي إرهاصات قدّمها للفكر العلمي التجريبي.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني