آفاق اللجنة الدستورية بعد زيارة بيدرسون لإسطنبول ولقائه العبدة
لا يمكن النظر إلى تسويف دور النظام في العملية التفاوضية، بينه وبين قوى الثورة، على مسطرة الفشل والنجاح، فهما ليسا فريقين متنافسين لتحقيق نتائج أفضل في ذات المربع، بل هما ممثلان لاتجاهين متصارعين، يخصّان بنية الدولة، وبنية نظام الحكم فيها، ونتائج ذلك على كرامة المواطن السوري، وحقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، على قاعدة المساواة الفعلية، في الحقوق والواجبات، ووفق حق مكونات الشعب السوري، في التعبير عن نفسها ثقافياً وإثنياً، على قاعدة وحدة الأرض والشعب السوريين.
هذه الرؤية، تسمح بفهم عدم التقدم بالعملية التفاوضية، للجنة الدستورية السورية في جنيف، فالنظام، لا يمكنه القبول، بتقديم تنازلات جوهرية، لتنفيذ القرار 2254، الذي تُعتبر اللجنة الدستورية إحدى سلاله الأربع، لأنه يدرك، أن قبوله تمرير اتفاق حول دستور جديد، يعني أولاً، قبوله واعترافه بوجود ندٍ سياسيٍ مناقضٍ له بالجوهر والأهداف (قوى الثورة والمعارضة)، ويعني ثانياً، أنه سيقبل بنتائج توافقٍ حول دستور جديد، ما يعني أنه لن يحتفظ بصيغة دستورية فصّلها بما يتناسب وحكمه المطلق للبلاد، كنظام استبدادي أو ديكتاتوري.
تسويف النظام لتنفيذ القرار 2254، يقف خلفه تسويف روسي، في انتظار الحصول على ضمانات تخصّ استثمارهم في الحرب على الثورة السورية. وهذا ليس مرتبطاً بالنظام أو قوى الثورة، بل يرتبط الأمر بتوافق روسي/أمريكي صريح، وهذا التوافق لا يخصّ الملف السوري وحده، بل يخصّ ملفات صراعية بين الروس والغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
إن القول بعدم إحراز أي تقدم بسير المفاوضات في جنيف، يعني أن زمناً يمكن وصفه بدقة، يمرّ على كل المنخرطين بالصراع السوري، وتحديداً على النظام السوري وحلفه الإيراني/الروسي الميليشياوي، فكيف يعمل هذا الزمن بخصوص كل أطراف الصراع، وما آفاق عمله؟.
أمريكياً وغربياً، زمن الحل السياسي لديهما، مرتبط بجعل الروس والإيرانيين، يغوصون في وحل الصراع السوري، ودفع تكاليفٍ، لا يمكنهما استعادتها، في ظل موازين قوى لا تعمل لمصلحتهما، وهذا يعني أن الغرب ليس متعجلاً بشيء، ما يجعله يصرّ على تنفيذ القرار 2254، ومعنى ذلك عدم المراهنة الروسية والإيرانية على إعادة تأهيل نظام الأسد، ما يدفعهما للبحث عن بديل مضمون، وهذا لم يتوصلا إليه بعد.
تركياً ومعها المعارضة وقوى الثورة الحليفة لها، هي الأخرى، لا يمكنها تقديم تنازلات جوهرية، تسمح بإعادة إنتاج نظام الأسد وتأهيله، فهذا الأمر صار واضحاً لديهما، بأن لا حل سورياً في الأفق بغير تنفيذ قرارات المرجعية الدولية، ذات الصلة بالصراع السوري، لأن غير ذلك يعني عودة الاستبداد من النافذة، وهدر كل تضحيات السوريين العظيمة، وهو أمر لن تقدم عليه قوى الثورة أو تركيا.
روسيا وإيران والنظام السوري، كل واحد منهم له مقدمات وأهداف، قد تتوافق في مربع، وتتفارق في مربعات، فالنظام ظنّ مع بداية الثورة أنه سيستوعب اندفاعتها السلمية، عبر استخدامه للعنف المفرط، محاولاً بذلك، تكرار تجربة النظام، في أحداث الثمانينيات، التي جرت بينه من جهة، وبين الإخوان المسلمين وتنظيمهم المسلح المسمى الطليعة المقاتلة من جهة أخرى.
النظام لم يقرأ الثورة السورية بصورة هادئة ومنطقية، فالفرق بين أحداث الثمانينات وثورة الشعب عام 2011 فرق جوهري، فأحداث الثمانينيات كانت محصورة داخلياً بين جماعة الإخوان من جهة، وبين النظام وحلفائه من أحزاب سياسية متحالفة معه، وعلى أرضية شعبية سلبية، لم تشارك في الصراع، بينما ثورة 2011 هي ثورة شعبية شملت كل سورية بما فيها مناطق نفوذه، وهذه الثورة كانت ولا زالت تعبيراً عن حاجة شعب إلى تغيير حياته عبر تغيير النظام الذي يعيش في كنفه، ويمنعه من أي تطوير أو تغيير، مع تعميق للنهب وفساد الدولة.
وفق هذه المحددات تجري عملية التفاوض، فالنظام الذي لا يريد تقديم تنازلات جوهرية تتعلق ببنية نظام الحكم، محكوم بمعادلتين خطيرتين، الأولى أن قراره، ليس كما يروّج، مُلك يده، فهو فقد جدياً السيطرة على جيشه القديم الذي تآكل خلال سنوات الصراع، وما نراه من قوات الآن، تقاتل بأمره، ليست أكثر من ميليشيات غير خاضعة له، وإنما تخضع لمموليها، إيران أو روسيا أو من يدفع من تجار الحرب.
ثاني المعادلات أن النظام ومن يدعمه، يعيش في حالة حصار اقتصادي مدمّر، جعل ليرته تتهاوى لتقترب من قيمة 4000 ليرة مقابل دولار واحد.
النظام حتى لو مرّر انتخاباته المزيفة، في ظل غياب موقف روسي حاسم، ينتظر الحصة من الغرب، فإن هذه الانتخابات، لن تزيده منعة أو شرعية دولية، أو خلاصاً من عقوبات تطبّق عليه وتدمّره.
هذه اللوحة قرأها بيدرسون جيداً، وقرأتها الأمم المتحدة بصورة فعّالة، ويفهمها النظام والروس بوضوح، ووفقها ذهب بيدرسون إلى موسكو، ليهمس في أذن لافروف كلمة السر الغربية، التي تقول بوضوح شديد لهم، إما الغرق البطيء بالوحل السوري، وهذا يعني تبخر كل ما رسم له الروس، أو القبول بمسار التفاوض الدولي، وهذا يحتاج إلى تفاوض مباشر دون لبس مع الغرب، ما يعني تنفيذ جوهر القرار الدولي 2254.
بيدرسون الذي ذهب إلى دمشق، سرّبت أوساط النظام فحوى ما حدث في لقائه فيصل المقداد وزير خارجية النظام، إذ وافق النظام مرغماً تحت وطأة العقوبات، والخوف من تداعيات حقوقية دولية، يتم الشغل عليها الآن، على العمل على صياغات دستورية في جنيف.
لهذا يمكن أن نعتبر أن فشل الدورة الخامسة من مفاوضات جنيف للجنة الدستورية السورية هو فشل صريح وواضح للنظام، حيث سيدفع ثمنه تنازلات أكبر فأكبر مع كل ساعة تتراكم فيها آثار الحصار عليه. فممارسته في جنيف جعلت العالم كله يعرف أنه هو من يعطّل تنفيذ القرارات الدولية، وهذا يترتب عليه نتائج لن يحتملها نظام متهالك، يعيش بحقن داعميه الروس والإيرانيين.
فشل الدورة الخامسة هو مكسب لقوى الثورة والمعارضة، ومكسب للدول التي تصرّ على تنفيذ القرارات الدولية وتحقيق الانتقال السياسي في هذا البلد. فالحفاظ على ثوابت الحل السياسي وفق القرارات الدولية من قبل قوى الثورة، وتحليهم بالصبر والتنسيق مع أصدقاء السوريين، هو نجاح للشعب السوري.
هذه الجدلية هي من يفسّر قريباً في الأيام التالية معنى فعالية آليات التفاوض، وبرمجتها زمنياً بمدة محددة، وهو أمر سيوقع عليه الروس، أو يدفعون ثمن رفضهم التوقيع عليه مزيداً من الغرق المرير في الوحل السوري.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”