fbpx

يعيش العرب.. تسقط أمريكا

0 340

بالرّغم من إلحاحهم المتواصل على مدى عشرين عاماً، ما زلت متمسّكاً برأيي.

أبي في أمريكا.. أمي في أمريكا.. وإخوتي.. وهم يريدون – جميعاً – أن ألحق بهم لأحصل على الجنسية وأقيم هناك، هرباً من التخلّف الذي نعانيه هنا.

عشرون عاماً وأنا أكافح في وطني حتى بنيت لنفسي سمعة أدبية طيّبة.. أنهيت دراساتي العليا وعملت في الجامعة.

صحيح أنني عانيت الكثير في مشواري الطويل، وفُجعت بخيانة كثير من المعارف والأصدقاء.. ولكنني أرفض البراغماتية على الطريقة الأمريكية، حيث تكون العلاقة عقداً مقنّناً يستبعد القيم الأخلاقية ولا يعترف بغوث الملهوف أو حماية المستجير.

خلف كلّ تحيّة في أمريكا تكمن مصلحة، والحفلات الجماعية تُقسّم تكاليفها على كل المشتركين.

أما في البلاد العربية فإن الحب يشيع إلى درجة أن يضحّي الفرد بنفسه من أجل إنقاذ الآخرين من غير حساب للفوائد التي قد يجنيها من وراء شهامته.

أهلي في أمريكا يتقاسمون المصروف، وأنا – هنا – أعيش على حساب أصدقائي، ويعيش جيراني على حسابي… والكرم – عندنا – لا يُحَدّ ولا يُقنّن ولا يحتاج إلى مراسيم تشريعية لتنظيمه.

اليوم وصلتني رسالة من والدي تحمل في طيّاتها مئتي دولار ورسالة تقول:

“عزيزي أحمد.. أرجو من سيادتكم التفضّل بتصديق وكالة المحامي من وزارة الخارجية وإرسالها إلينا في أسرع وقت. ولا تنسَ إرفاق طلبنا بفاتورة التكلفة، بما في ذلك أجور الساعات التي تتكلّفها لإجراء ذلك، حتى ترسل لنا الباقي أو نوافيك بالمزيد. نرجو أن تفكّر بالقدوم إلينا مرة أخرى ولن نتقاضى منك لقاء تأمين العمل سوى راتب شهرين.

المخلص

والـدك”

سأعترف لكم يا سادتي أنني – للوهلة الأولى – صُدمتُ بنصّ الرسالة الرسميّ. ولكنني – بعد أيام – بدأت ألفتي معها تزداد. لقد أيقظ تلك الألفة جاري الدهّان الذي يحتلّ الطابق العلوي من المبنى.

طرق الدهّان بابي وبرفقته ثلاثة من أقربائه، بدا يحتمي بهم وهو يقول: هل تملك رخصة بوضع عريشة فوق سطح المرآب الذي تملكه؟

بوجه باسم قابلته وأنا ألحّ على العصابة المداهِمة كي تقبل ضيافتي، وحين أبوا، قلت لهم: الأمر لا يحتاج أي رخصة.. بضعة أعمدة خشبية تحمل صفائح رقيقة لتحمي بيتي من حرارة الشمس ومطر الشتاء وغدر اللصوص. جيراننا هم الذين ألحّوا علي كي أحمي بيتي بها، وحين سألتهم عن رأيك، قالوا: الرجل لطيف وهو مقيم في ألمانيا، ولا ضرر عليه من حماية بيتك.

جيش من البلدية داهم بيتي وحوّله إلى أنقاض… دخل من بيت جاري.. أنجز مهمّته بمرح ونشاط.. تناول وجبة غداء دسمة.. وغادر باتّجاه بيت آخر.. ولم ينسَ المهندس أن يهمس في أذني وصيّة جاري:

إذا أردت أن تبني السقف من مواد بناء نظامية، سيوافق جارك على الإجراء ولن يعود للشكوى؟!…

أي قانون هذا الذي يُعلَّق على ذمّة جار، وسماحته؟!

وأي قانون هذا الذي يسمح بتكاتف الجيران لإنشاء مبنى كامل مخالف، غير عابئين بانهياره؟!..

هل في أمريكا قوانين مشابهة؟.. هل تجبر أمريكا الجيران على التراضي والتماسك، ولو ضدّ القوانين؟… ذلك لا يحدث بالتأكيد، لذلك نقول: يعيش العرب.. تسقط أمريكا.

أبي في أمريكا.. أمي في أمريكا.. وإخوتي…

وأنا لا أبادل أصدقائي بالعالم.. نحن يد واحدة في وجه الظلم والافتراء عندما لا يقع على أحد منّا شيء منهما…

أما عندما يُحسّ أحدنا بسوء.. تتفكّك الأيدي ويبحث كلٌّ منا عن خلاص لنفسه…

إبراهيم الذي كان في مأزق نتيجة المشاكل بين أهله وزوجه، وأمواله عالقة عند صطوف الذي عشّمه بأرباح باهظة، ما جعله يقع في حيص بيص، فلا هو يأخذ أرباحاً على ماله.. ولا هو قادر على سحبها ليسترهن بيتاً وينهي مشاكله العائلية..

صطوف كان يفيه كل يوم مئة ليرة ويجعله يكتب صكاً بالإيفاء، مع أنه لم يكتب له صكاً بإيداع الأموال لديه…

أخذتُ مكافأة كتابي الذي استغرق عامين من العمل المتواصل ودفعتها لصطوف كي يفي إبراهيم…

إبراهيم حُلّت مشكلته… وأموالي طارت بفضل قانوننا العربي: “المفلس لا يُحبس”… وإبراهيم لم تتحرك فيه الحميّة العربية ليطالب لي بالمبالغ التي أودعتها من أجله… وجيراني الذين أقنعوني بأهمية العريشة وضرورتها لحماية بيتي، انسحبوا إلى بيوتهم، وراحوا يراقبون من ثقوب نوافذهم جيش البلدية وهو يقتحم منزلي بشراسة.

إنّنا عرب نتكاتف في السرّاء.. أمّا في الضرّاء، فكلٌّ منّا يبحث عن خلاصه، تماماً على الطريقة الأمريكية…

ومع ذلك: يعيش العرب… تسقط أمريكا

أبي في أمريكا… أمي في أمريكا.. وإخوتي…

وأنا أبيع منزلاً وأشتري آخر في وطني، وأنتقل في معيشتي من حسن إلى أحسن…

البيت الذي اشتريته مات صاحبه بعد أن قبض كامل ثمنه، ولكنّ الورثة لا يعترفون بتوقيع أبيهم، وحتى يفرغوا لي ببقية أسهم البيت يريدون أن أدفع لهم ثمنه مرة أخرى على الرغم من أنني أسكنه منذ عشر سنوات… والحصة الأكبر مدوّنة باسمي.

بعت البيت.. سكنه المشتري، صديقي الحميم، وحجز بيتي الجديد حتى تتمّ له فراغة كامل البيت القديم…

بيتي الجديد أيضاً حجزه صاحبه البائع لأنني تأخّرت عليه بالقسط الأخير…

والقسط الأخير كان يجب أن يأتيني مبلغه من صديقي الآخر الذي (سندتُه) في مشروعه ووعدني وعداً قاطعاً أن يسدّد القسط عني في موعده… ثم أعلن إفلاسه “والمفلس لا يُحبس”…

يعيش العرب.. تسقط أمريكا

في أمريكا تدفع الدولة الأموال عن النصّابين ثم تحصّل مبالغها بطرائقها الخاصّة… ونحن أحرار.. الدولة لا تتدخّل بين الشركاء أو في العلاقات التجارية…

إذا كان لديك شيك أو سند أمانة… حذار من المطالبة به..

فإذا لم يتّهمك المدين بتزوير السند الذي كتبه على نفسه ولم يرفع ضدّك دعوى جزائيّة، فلا أقلّ من أن يتقدّم ببيان يؤكّد فيه أن العلاقة بينكما علاقة تجارية.. وتصبح أموالك في (خبر كان) بفضل الحرية التي نتمتع بها في وطننا العربي الكبير…

تعيش الحرية.. يعيش العرب.. تسقط أمريكا

أبي في أمريكا.. أمي في أمريكا.. وإخوتي

وأنا بين حرّيتي في الموت قهراً أو العيش ذلاًّ… هنا، وبين أمريكا التي تراودني، ومن الآن أشعر بأنني غريب عنها وبأنها غريبة عنّي، أسألك، يا أبي…

أحبك يا أبي.. أحبك يا أمي.. أحبك يا جدّي العاشر… وأسأل: 

لماذا خرجنا من الأندلس ولم نُدفن فيها؟!…

أيّ عيش تضمنه عائلتي لي وهي تخلّفني هنا، وتدعوني إلى هناك… ترميني إلى شفا حفرتين بين علاقات حميمية تخفي اغتيالاً يتأهّب، وعلاقات براغماتية تتطلّب تأهّباً دائماً للاغتيال.. أو للحذر منه…

يعيش العرب.. تعيش أمريكا

وأسقط أنا ريشةً في مهبّ الريح

بانتظار مولـد جديد

بلا حرّية.. ولا… أمريكا

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني