
هل للوعي جنس؟ حين يُصاغ التفكير داخل فضاءات الاستبعاد
تتردد على مسامعنا دوماً تلك المقولة المريحة: (الوعي لا جنس له)، وكأن العقل واحة محرّرة من سطوة السلطة، ومن قيود التمييز. لكن، ماذا لو كان الوعي ذاته ساحة من ساحات الصراع الأزلي؟ وماذا لو أن ما نطلق عليه (تفكيراً موضوعياً) ليس في حقيقته سوى امتيازٍ ذكوري خُلِّص بعناية من شوائب التجربة النسوية وهواجس الهمّ الجندري؟
الوعي لا يولد محايداً كما يُزعم. إنه يتشكّل بفعل المؤثرات، ويُلقَّن بمنهجية صارمة، ويُروَّض بأدوات متعددة. والنساء في مجتمعاتنا العربية نشأن وترعرعن في سياقات تحاصر السؤال من كل جانب، وتختزل العقل في فضيلة الطاعة العمياء، وتمنح الرجل ليس فقط حق التفكير المطلق، بل تمنحه أيضاً سلطة احتكار الصواب والحقيقة.
الوعي كمنتج اجتماعي متجذر
حين نتحدث عن الوعي، فنحن لا نتحدث عن كيان مجرد أو عقلٍ طافٍ فوق الأجساد والتجارب. بل نتحدث عن بنيةٍ معقدة تصوغها وتشكلها المدرسة بمناهجها، والمنزل بقواعده، والإعلام بخطابه، والمؤسسة الدينية بتفسيراتها، والنكتة بسخريتها، والأمثال الشعبية بحكمتها المزعومة. هذه البنية المتشابكة حددت – على مدار قرون متتالية – من يُمنح حق التفكير، ومن يُفرض عليه الالتزام الصامت. من يُصغى إليه باهتمام، ومن تُكمم أفواههن. من يُعترف بكتاباته كـ”فلسفة” عميقة، ومن تُتهم أفكارها بأنها مجرد “ثرثرة” لا طائل منها.
كل هذه العوامل المتداخلة تجعل سؤال (هل للوعي جنس؟) سؤالاً ملحاً وجوهرياً. فالمرأة التي تجرؤ على التفكير إنما تفكر من داخل شرط تاريخي وثقافي يمارس عليها القمع المنهجي، ويزرع في أعماقها الرهبة، ويعيد تشكيل (وعيها) بطريقة تجعله سلاحاً ضدها لا أداة لتحررها.
من يملك حق الرواية والتعبير؟
المرأة في مجتمعاتنا لا تعاني فقط من التهميش الاقتصادي أو الإقصاء القانوني، بل تعاني أيضاً من مصادرة سرديتها الخاصة ومن نزع ملكية صوتها. تعاني من التشكيك المستمر في قدرات عقلها، وفي صدق عاطفتها، وفي صحة حدسها. وحين تجرؤ على الكلام – سواء كتابةً أو رأياً أو تحليلاً – تُعامل كما لو كانت (متمردة خارجة عن النص)، لا كإنسانة تُنتج معرفة أصيلة وقيّمة. والنساء اللواتي يتجرأن على الكتابة، أو إبداء الرأي، أو تقديم التحليلات، يواجهن عنفاً رمزياً قد يكون صامتاً حيناً ومباشراً صارخاً أحياناً أخرى.
يُطلب منهن بشكل مستمر أن (يتركن الجدال للرجال)، أو أن (يتحلين بالتواضع)، أو (ألا يتجاوزن الحدود المرسومة لهن). فالمساحة المسموح بها للمرأة في فضاء الوعي والتفكير هي فقط تلك المساحة التي تخدم تراتبية الطاعة وتعزز منظومة الخضوع.
نحو وعي متحرر من قيود الامتيازات الذكورية
لذلك، لم يعد كافياً أن نردد بسذاجة أن الوعي ليس له جندر، بل أصبح من الضروري أن نعمل بجدية على تحرير الوعي من بنيته الذكورية المتجذرة. وهذا التحرير لا يعني بأي حال من الأحوال تبني خطاب كراهية ضد الرجال، بل يعني مساءلة المنظومة الفكرية والثقافية التي احتكرت العقل والمنطق لصالح الذكور، ونزّهتهم من الأهواء والانحيازات، بينما جرّدت المرأة من حقها في التفكير المستقل، وحبستها في مربعات ضيقة مثل: (النية الطيبة) و(الحياء) و(العاطفة).
نحن بحاجة إلى وعي جديد يرى في المرأة كياناً يستحق الحرية الكاملة، لا مجرد موضوع للرغبة أو مصدر للخوف والقلق. نحتاج إلى نمط تفكير لا يختزل المرأة في سؤال (ما هو الدور المناسب لها؟)، بل يفتح أمامها آفاق (الحياة الممكنة) بكل تجلياتها وإمكاناتها. نحتاج إلى عقل جمعي يعترف بأن قضية تمكين المرأة ودعم حقوقها ومناصرتها ومناهضة العنف ضدها التي تخوضها التجربة النسوية ليست هامشاً أو تفصيلاً ثانوياً، بل هي ركن أساسي وجوهري في فهم معنى العدالة والكرامة الإنسانية بأبعادها الشاملة.
في سوريا اليوم، وبعد كل هذا الدمار والخراب الذي طال البنى المادية والمعنوية، لا يمكن الحديث بجدية عن تحوّل مجتمعي حقيقي، دون العمل الجاد على تحرير الوعي من طبقات القمع المتراكمة، ومن ثقافة التواطؤ المستمرة، ومن حالة الصمت المطبق… وهذا التحرير يبدأ من الاعتراف العميق بأن الوعي ذاته، بتكوينه الحالي، يحتاج إلى إعادة بناء على أسس العدالة الجندرية الحقيقية.