fbpx

هذيان السمع والبصر

0 358

منذ أن علَّقَ الملاك الطيب عزرائيل مهمته، وأعلن عن عجزه، وعدم قدرته على مواكبة ما ابتدعه الإنسان من فنون حديثة تخص مهنته، والموت يتربص بي! يلاحقني، أنا الذي ليست له من قدرة على دعس نملة، ويخشى دبيب الأحزان في مسارب نفسه.

 أراه، أي الموت، فأشيح عنه.. أنتحي المسالك غير المأهولة لئلا تقع عليَّ عيناه بالمصادفة.. وغالباً ما أحاول خداعه، فتراني أتلطى منه بالجدران، وأتخفى عنه في الزوايا. ولدى اضطراري للظهور العلني، تراني أندَّس بين جماعات الناس على الأرصفة أو في الساحات!

 اليوم فاجأني صباحاً، استغفلني على نحو ما..! كنت وحيداً حين اعترضني واحد من أعوانه المستأجرين، وقف قبالتي، هكذا وجهاً لوجه..! حجب المدى عن عينيَّ.. كان بصري إلى الشروق المضيء، حيث قرص الشمس رغيفاً برتقالياً.. وجهَ طفل يناغي..! لم أعبأ به. كنت مهتماً بحركات الطفل العفوية، وبضحْكِه.. هو أيضاً لم يكترث بميلي ورغبتي، أقصد مندوب الموت، لم يمهلني لحظة واحدة.. رأيته يميل عليَّ.. يغرس أظافره في لحم كتفي.. يهزني بقوة وعنف. صدى صوته، يجلجل الأرجاء، يصرخ بي: 

– أجبني، هيا بسرعة، كيف تريد نهايتَك..؟! 

– نهايتي..! وحرت في جواب مناسب.. أخذتني الدهشة والمفاجأة، وحين رآني أتلكأ، تابع يشرح بهدوء:

– أتريدُها رصاصةً مباشرة في الرأس أم في القلب؟! أَمِنْ أمام تريدُها، أم من خلف؟! دفعته بيديَّ اللتين لا أعرف كيف واتتهما، في تلك اللحظة، قوة غريبة.. قوة لم أعهدها فيهما..! فراح يتدحرج على الأرض. ضحكت منه، وتابعت النظر الممتع إلى الرغيف.. أعني إلى وجه الطفل البرتقالي..! وكدت أنساه فعلاً، وأنا أبتعد عنه منشغلاً برؤياي، لكنه عاد ليقطع عليَّ طريقي، ويؤكد ما كان بدأه:

– أنا لا أمازحك أتريدها طلقة من قناص مجهول أم من “شبيح” معلوم؟! لعلك تودُّها من ثائر مزعوم! وكشَّر، هذه المرة، ودخل في موجة من الضَّحِك، والكركرة، وحديده، على كتفه، ما يزال. سألني: 

أتكفيك رصاصة عادية أم تحتاج إلى قذيفة ممتلئة؟! ما لدينا كثير.. كثير ومتنوع، وأخذ يعدد:

   الكلاشن، ووضع يده على حديدته، والآر بي جي.. ثم لدينا الدوشكا والشيلكا والبي كي سي.. وعندنا، أيضاً، أنواع أخرى، إن لم تعجبك القذائف الصغيرة هذه، لدينا صواريخ ترابية، وأخرى نارية..! وعندنا أيضاً البراميل، البراميل بدعة ما أحسن اختراعها غيرُنا..! و بعد قليل قال:

لك أن تختار بينها وبين جرار الغاز أقصد “مدافع جهنم..”! عفواً هذه الأخيرة، أعني الصواريخ والجرار والبراميل، مخصصة للجماعة.. صحيح، لم أسألك:

   أتريده موتاً فردياً أم جماعياً؟! سريعاً، تحبه، أم بطيئاً..؟! هانئاً أم عبر معاناة..؟!

ضقت بغلظته ووقاحته، وبالقوة التي واتتني قبل قليل، أمسكت به، من يديه ورجليه، ورفعته عالياً، ثم قذفت به، فعَلِق من سير حديدته برأس عمود كهربائي، مقطعة أسلاكه من كثرة القذائف والشظايا.. وراحت الكهرباء تدغدغه، وقد صار إلى وتر مشدود، وحال تشبه الجنون، إذ وقع تحت وطأة نوبة ارتجاف غريبة، ما أحزن الطفل البرتقالي الذي كان يبتسم لي، فدمعت عيناه..! لم تهن عليَّ دمعات الطفل، فراضيته، وأنزلت مندوب الموت من عليائه، محذراً إيّاه من أيّ فعل خاطئ، أو قول فيه تهديد..! امتثل لما قلت بهزة من رأسه، وهمّ بالمغادرة، لكنه تذكر أمراً ما، فتوقف يقول:

أتعلم، وأنا على العمود، خطر ببالي موت آخر لدينا.. هو موت بطيء، لكنه لذيذ! أرأيتني حين كنت أنتفض؟ إنه يشبه حالي تلك.. وأظنه أكثر متعة.. فهو لا يدغدغ أيَّ جزء ظاهر من بدنك.. يميل إلى الأعضاء الأكثر نعومة وحساسية فقط.. (من عجب، وعلى نحو لا إرادي مددت يدي إلى وسطي!) وحين لاحظ حركتي، تابع يقول:

على كل حال، لا أريد لك هذا النوع، لأنه غالباً ما ينتهي بصاحبه، إلى مياه المجاري، أو إلى أقرب حاوية.. أو إلى آبار مهجورة في أطراف المدينة.. لأنه، أنت تعلم، لا مكان للحفر في الأماكن المحفورة أصلاً..! وأنت، وأمعن إلى وجهي: 

الحقيقة، أنا لا أحتمل رؤية وجهك الوسيم هذا في تلك الأمكنة..! 

حين عادت الضحكة إلى وجه الطفل، عدت أسير والفرح، ولكن ما إن ابتعدت قليلاً، حتى تناهى إلى سمعي صوت مدوّ.. ولمحت في الفضاء القريب جسماً يهوي مشتعلاً.. كأنما هو شهب.. لم أدر ما أفعل.. على بعد أمتار مني فرن للخبز.. الناس قدّامه يتراكبون بعضهم فوق بعض، يشكلون رتلاً طويلاً.. بل أرتالاً.. عجائز وشباب وأطفال.. صفَّان للنساء، واحد للمحجبات وآخر للسافرات.. هرعت أندس بين صفوف الرجال.. الجسم الذي جاء يهوي مثل جلمود الملك الضليل، لم يمهلني، كما لم يرحم أحداً غيري..! حدائده الملتهبة تطول الجميع..! ووجدتني أرتمي بين الجموع ممزق الروح والجسد والثياب.. الناس تبعثروا، من رعب، هنا وهناك.. جسدي صار إلى شقف كبيرة.. وإلى نتف أخرى دقيقة لا ترى بالعين المجردة.. كيف يا ربي.. سأجمع نتفي وقد امتزجت بالتراب والهواء، وطارت إلى أماكن وجهات مختلفة..؟! 

روحي هي الأخرى تبعت الفتات، لكنَّ ما هو غريب حقاً، أنني لم أشعر بسكون الموت.. وتساءلت: 

لماذا اختار لي العنصر هذه الطريقة؟! أنا لم أحدد له أياً من الأشكال التي قال بها أمامي.. كما أنني عفوت عنه عندما عَلِقَ بعمود الكهرباء.. بالطبع لم أعثر على جواب.. ولكن، ليس ذلك ما شغلني، بل هؤلاء الناس الذين صاروا تحت الأنقاض، إذ هبط عليهم بناء الفرن.. أقصد الطوابق التي فوقه.. امتزجت دماؤهم بروائح الطحين والبارود والأرغفة المشتهاة..! سعيت إلى جمع فتاتي وأشلائي، حاولت إنقاذ ما يمكن إنقاذه..!

 رأيت جنداً ومسلحين آخرين.. وجوههم كئيبة، في عيونهم أرق وتعب، واحد منهم تمتم لرفاقه، وظهورهم إلى الناس: 

أرأيتم كم كان عزرائيل محقاً في طلبه.. فلو كان ما يزال أميراً على الموت، فهل كان بمقدوره أن يقوم بقبض هذه الأرواح كلها دفعة واحدة؟! صادق الجميع على قوله بإيماءة من أيديهم ورؤوسهم.. ولما كنت أحدِّق بهم كالأبله.. رازني بعضهم بعينين محمرتين من غضب وانفعال وخوف، وقال:

 أأنت هنا ما تزال؟! هيا امض في طريقك، وإلا جعلناك فوقهم. لم تواتني قوتي التي جاءتني قبل قليل.. لا أعرف لمَ تهاوت.. فأشلائي لمْ تلتحم، ودمائي كادت أن تشارف على نهايتها.. مضيت ببطء.. أصواتهم ترنُّ في أذني، وكذلك رصاصهم. تذكرت وجه الطفل الذي كان.. حاولت النظر إلى الفضاء.. لم أر أحداً، كان سواد السماء كثيفاً وشاملاً.. امتد إلى عينيَّ، وعندما رأيته يتجمع فيهما، استحضرت ما تبقى فيّ من ماء ودم.. سكبتهما على وجنتيَّ والأرض.. ودعوت أشيائي وأشلائي إلى الالتحام ثانية، وأخذت أدخل في بقعة التراب التي رطبتها، داعياً بعض أشلائي لنوم هانئ طويل..!

كانون الثاني 2014

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني