fbpx

نظام أسد يتملّص من التطبيعين العربي والتركي.. ما وراء هذا التملّص؟

0 253

مناقشة لماذا يتهرّب نظام أسد من التطبيعين العربي والتركي، يحتاج إلى مناقشة بنية هذا النظام وآلية عملها، وكيفية إدارة الحدث من قبلها.

نظام أسد لم يبنه الوريث، فمؤسس الدولة الأسدية (حافظ الأسد) حوّل الدولة السورية إلى دولة أمنية، أي جعل كل مفاصل الحياة السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية وغيرها تمر عبر قناة أمنية، تُجيز لها المرور أو تمنعه.

هذه البنية هي بنية منغلقة الأنساق، لا تقبل التطوير والتحديث والتغيير، لأن من وضع أسس عملها يُدرك ببساطة، أن أي تغيير بأحد أنساقها المكونة لها، سيؤدي إلى تبدلات فيها، مما يفتح احتمال نسف مرتكزها الأساس مقولة (إلى الأبد).

فهم هذه الحالة البنيوية يقود بالضرورة إلى فهم سلوكها تجاه ضرورة التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فهي ترفض مفهوم الضرورة، وهذا يعني رفض الصيرورة الطبيعية لتطور البنية، أي العمل على بقائها في حالة سكون، مما يتعارض مع طبيعة البنى الاجتماعية أو الاقتصادية التي تحكمها قوانين الضرورة والتغيير نتيجة التراكمات والتناقضات وعوامل التأثير الكثيرة عليها.

فهم بنية النظام الأسدي بصورة وصفية هي شكلً من أشكال القراءة من السطح، أي أن القارئ الوصفي لبنية نظام أسد سيقول: أن هذا النظام استبدادي قهري، يحتكر مفاصل القرار في الدولة والمجتمع، وبالتالي، فكل أمر لا يخضع لقانون ديمومته، سيعمل على رفضه ودحره، هذه القراءة لا تفيد في تغييره، إنما تصفه فحسب.

إن نظام أسد الذي رفض الحوار مع الشعب السوري في عام 2011 إثر المظاهرات السلمية في ربيع ذلك العام، لم يكتف برفض الحوار، بل أنه أطلق النار بإفراط على المتظاهرين، لأنه أحسّ بأن بنيته الأمنية تتعرض للاهتزاز الشديد، من خلال احتمال خسارتها لنسق من أنساقها أو أكثر، وهذا يمثّل بداية انفراط مفهوم الدولة الأمنية، وبالتالي تقلّص قدرة سلطته على الهيمنة التي كانت سائدة لأكثر من لأربعين عاماً في ذلك الوقت.

المقياس الوحيد لدى نظام أسد في معالجته للأمور، أو في عقده لصفقات سياسية داخلية، أو إقليمية، أو دولية، هو مسألة بقاء قبضته الأمنية فاعلةً وقادرة ومهيمنةً. هذا المقياس يكشف عن انغلاق بنيته على نفسها، وعدم وجود مرونة في هذه البنية، والتي تكثّف نفسها عبر مقولة (الأسد أو نحرق البلد)، أي بمعنى آخر “أنا المهيمن المسيطر أو لا أحد”.

وفق هذه الرؤية لبنية النظام، نجد وعبر اثنتي عشرة سنة، أن نظام أسد لم يضع في اعتباره وحسابات الرجعة لديه أي إمكانية للحوار مع الآخر (الشعب السوري وقواه الثورية)، وهو لم يستطع إيجاد تقاطعات مع مبادرات عربية آنذاك، لأن أي مبادرة ومن أي جهة كانت لن يقبلها ما دامت تناقش بنيته وتعديل هذه البنية الأمنية المهيمنة.

نظام أسد يُدرك بعقله المغلق أن انفتاحه على الآخر الثائر أو المعارض يعني تقديم تنازلات جادة على صعيد بنية الدولة الأمنية، وعلى صعيد مفهومه للسلطة المؤبدة، ولهذا فهو لو امتلك القرار المستقل في هذه المرحلة لرفض نهائياً التفاوض مع تركيا، التي يعتبرها وفق مقاييس بنيته بأنها عدو صريح لوجوده الأبدي.

تركيا التي تريد جواراً سورياً آمناً لها، تعرف أن هذا النظام لا يستطيع أن يخون بنيته، فهو ألجأ عبد الله أوجلان الانفصالي الإرهابي كما تصفه الدولة التركية، ولهذا فإن النظام يريد بقاء قسد ضمن شروط معادلته التي تحقق بقاءه مهيمناً، إذ أنه مستعدً لتقديم مكافآت صغيرة لأتباع أوجلان في سورية دون مساس ببنيته.

 ولكن هذا النظام يدرك أن إرادته السياسية تتوزع على حليفيه إيران وروسيا، فهما من أبقياه حياً بتدخلهما الصريح لصالحه عسكرياً وسياسياً واقتصادياً. ولكنه مجبر على التفاوض حول تطبيع علاقاته معها، لأن ذلك يخدم حليفه الروسي المحاصر غربياً، حيث لم تصطف تركيا مع المحاصرين لروسيا.

إيران التي أحست بخطر الضغط الروسي على نظام أسد، عملت على المشاركة في اجتماعات موسكو الخاصة بتطبيع العلاقات بينه وبين تركيا، إذ تشاركه الرؤية في انفراط عقد سلطته إذا كان مضطراً لتقديم تنازلات تمس جوهر بنيته المغلقة.

السعودية ومعها مبادرتها للحل السياسي، لم تستطع اختراق جدر موقف النظام حيال مسألة التوصل إلى حلٍ سياسي، لأن عقل النظام قال له: ما دامت المعارضة المسلحة لم تستطع إسقاطه، ولم تستطع أدواتها السياسية أن تنتزع أي تنازل جوهري على صعيد بنية الدولة الأمنية القائمة، فهذا يعني أنه انتصر، ولكن الحقيقة غير المحكية عنده، هي أن النظام فهم من المبادرة العربية أن عليه تقديم تنازلات جوهرية تمس بنيته الأمنية المهيمنة، من هذه التنازلات فتح ملف المعتقلين والمختفين قسرياً، وهذا الأمر يرفض تداوله، لأنه يكشف فظاعاته التي مارسها بحق الشعب السوري.

كذلك يرفض عودة اللاجئين والنازحين بأمان إلى مدنهم وقراهم، وهذا يتطلب تدخلاً أممياً أو دولياً لضمان تنفيذه، ونظام أسد يعتبر ذلك مساساً ببنيته المغلقة الآمنة له ولبقائه في الحكم، ويرفض تعديل الدستور أو إجراء انتخابات عامة بإشراف دولي، لأنه على يقين أن الناس سترفضه عبر صناديق الانتخابات وبوجود أممي حاسم.

المعادلان الأساسيان اللذان يستطيعان كسر انغلاق بنية النظام الأمنية، الأول هو توفر قوة قادرة على هذا الكسر، كما حدث حين توجهت البوارج وحاملات الطائرات الأمريكية نحو شواطئه عام 2013 بسبب استخدامه للأسلحة الكيماوية المحرّمة دولياً.

أو الثاني وهو دفعه للتآكل الداخلي على مستوى بنيته، وهذا يحدث نتيجة زيادة حصاره اقتصادياً ومنع السلاح عنه، مما يغيّر في أنساق البنية من داخلها، وهذا يرتكز على إحساس حاضنته الشعبية بأن نظام أسد يقودها جدياً نحو التهلكة، فهو لم يعد يستطيع إطعامها، أو رشوتها، وهذا يؤدي إلى بدء تفكك هذه البنية، وإمكانية حصول صراعات في داخلها.

الاحتمال الثاني ممكن في حالة صفقة دولية بين الروس والغرب، وتشمل الصفقة المحتملة بؤرتي صراع بينهما، (سورية وأوكرانيا).

إن تفعيل قانوني قيصر والكبتاغون بصورة حقيقية من قبل الإدارة الأمريكية يمكنهما من دفع النظام نحو نهايته الحتمية، فهو نظام ما عاد قادراً على التملص من جرائمه الكبرى، وهذا يتطلب تشكيل قوة ضغط سياسية على الإدارة الأمريكية سواء من معارضي بايدن وطريقته في التعامل مع الملف السوري، أو من دول حليفة للولايات المتحدة متضررة من بقاء نظام أسد الذي تحول إلى شركة عملاقة لصناعة وترويج المخدرات، والتدخلات بشؤون بلدان الجوار.

بقي أن نقول الرهان على التطبيع مع نظام أسد خارج بنيته المغلقة أمنياً، هو رهان على وهمٍ فكري سياسي لا توجد فرصة حياة له خارج مربع الإرادة الأمريكية المهيمنة على العالم.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني