fbpx

نصر بلا ثأر

0 22

مضى شهر ونيف على الفرح السوري الغامر بسقوط نظام البطش والظلم وقيام سوريا الجديدة، وربما كانت أشهر كلمة قالها قائد العمليات العسكرية وتبنتها الهيئة هي كلمة: نصر بلا ثأر.

التحديات كثيرة ولا شيء أولى من شيء فالوطن يحتاج كل شيء من خدمات ووحدة وأمل وتعليم وكل شيء، والمظالم كانت أكبر من أن تحصى، وفي كل مكان مآسي وجراح وعذابات، وكل سوري قصة درامية كاملة، تسمعها بحزن وأسى، ولا زالت أشد المآسي قهراً وهولاً لم تتكشف بعد، وحين تكتمل روايات المقابر الجماعية وحفر الموت ومكابس الموتى فإن هذا اللون من الشر سيغلب بكل تأكيد كل ما رواه الإنسان من تاريخ الأكاسرة والفراعنة والقياصرة من ظلم وتوحش وجنون.

ولكن هل المطلوب أن ننطلق في إرادة الثأر بما يروي نزوات الانتقام؟ وهل سنمضي في الفرح بالنصر إلى ممارسة الشر الذي مارسه النظام البائد بكل مآسيه، وهل سنكرر جرائم النظام ونحن ننتقم؟

إن أسوأ ما ينتصـر به عدوك عليه هو أن يسلبك أخلاقك الربانية ويمنحك من توحشه ومظالمه، فتكون صورة أخرى من الطغيان الأسود بعباءة الحرية الحمراء.

وأسوأ من ذلك أن تمضي في نزوة الانتقام فتقوم بتخوين أسرة الجاني وعشيرته وحاضنته، وأنت تكرر تماماً ما كان يقوله نظام البطش الإجرامي من أن هؤلاء الإرهابيين لهم حاضنة ولهم عشائر، وكلهم سنعتبرهم إرهابيين حتى نقضي على نزعة الإرهاب المتجذرة في جيناتهم وجينات عوائلهم وتحت هذا العنوان وجد عشرات الآلاف أنفسهم في سجون النظام المتوحش.

منطق القرآن واضح وصريح، ولا توجد آية في القرآن أشهر من آية العدالة، وقد تكررت في القرآن الكريم مرتين ووردت في شرحها وتفصيلها أكثر من ألف حديث، وهي العبارة الذهبية التي صارت جزءاً من كل دساتير العالم في الحريات والعدالة: ألا تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى.

حين انتصرت الثورة في جنوب أفريقيا 1994 كان أمام نلسون مانديلا آلاف التقارير عن مجرمين وشبيحة ومؤيدين لنظام الأبارتيد العنصري البغيض، عشرات الآلاف من المواطنين السود قتلوا وذبحوا في سجون الأبارتيد، وكشف سقوط النظام البغيض عن مجازر ومقابر جماعية رهيبة… النفوس تغلي بالغضب ورغبة الانتقام.

كان أمامه الاختيار…

لقد أدرك من البداية أن طريق الثأر والانتقام لن يبني مجتمعاً سليماً وأن النار لا تطفأ بالنار…

أعلن عن لجنة الاعتراف والمصالحة واختار لها زعيماً تحترمه الأديان المختلفة وهو الأسقف ديزموند توتو..

أطلقت اللجنة عملها على أساس اعتراف الناس بما ارتكبوه، وتأكيد الدافع السياسي وراء ما فعلوه، وكان ذلك كافياً لعودته إلى الحياة، وتمكن ديزموند توتو من إيقاظ الإنسان في جوانح الإنسان الأسود المظلوم، ومنحه القدرة على الشعور بالنصر من دون أن يتحول إلى منتقم جبار.

كانت المحاكمات قائمة على منطق الهدي النبوي: ادرؤوا الحدود بالشبهات، ومقتضى هذا الكلام النبوي الكريم هو أن نلتمس للناس أسبابها، وأن نتحول بالحد الصارم إلى أخف منه لدى أدنى شبهة من التبرير والاعتذار.

فقط أولئك الذين ارتكبوا الجرائم لدوافع دنيئة، ولم يكن لهم أن يتذرعوا بالإكراه أو الإجبار وتقدم ضدهم أفراد مظلومون في محاكم رسمية تمت محاكمتهم وفق القانون.

أما مانديلا المنتصـر والذي حظي بتأييد العالم كله… بعد سجن استمر 27 عاماً، وبعد فوزه الساحق في الانتخابات أعلن عن حكومته الجديدة ونادى ديكليرك خصمه الأبيض العنيد، الذي أشرف على سجنه وسجن آلاف السود في السنوات الأخيرة… وعرض عليه منصب نائب رئيس الجمهورية… في موقف أذهل العالم…

وهكذا تم تجاوز مآسي الماضي وعذاباته من دون حرب أهلية جديدة….

قال مانديلا: إننا لا نولد عنصريين ولا متباغضين.. إنه شيء يعلمه لنا الآباء… وكما جاز أن نتعلم الكراهية فإن من المؤكد أننا نستطيع أن نتعلم الحب

 لا شيء أسهل من البغضاء… أما الحب فهو يحتاج أنفساً عظيمة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني