ناتو شرق أوسطي، ضدّ من؟
كثر الحديث في الآونة الأخيرة حول تشكيل حلف عسكري أمني اقتصادي يضمّ دولاً عربية وإسرائيل، وذلك بالتزامن مع زيارة الرئيس الأمريكي بايدن للمنطقة، وقد افتتح هذا السيناريو العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، وذلك في المقابلة التي أجرتها معه شبكة سي أن بي سي الأمريكية بتاريخ 24/06/2022 والتي قال فيها أنه يؤيد إنشاء ناتو شرق أوسطي بمهام محددة وواضحة، وبعيداً عما تثيره التسمية من مغالطة تدعو إلى السخرية كون (الناتو) هي اختصار لـ (حلف شمال الأطلسي) تحديداً، فكيف يكون حلف شمال الأطلسي شرق أوسطي؟ إلا أن المصطلح في الواقع قد تجاوز مفهومه الجغرافي ليكتسب مدلولاً سياسيّاً عنوانه العريض تحالف عسكريّ دوليّ بزعامة واشنطن، وكانت الإدارة الأمريكية قد مهدت للموضوع قبيل زيارة بايدن إلى المنطقة بالقول وبحسب البيان الصادر من البيت الأبيض” فإن الزيارة جزء من ضغط أمريكي لبناء تحالف أمني – اقتصادي أوسع يضم دولاً عربية وإسرائيل”، وكانت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية قد نشرت خبراً موسعاً يتعلق بلقاء مسؤولين عسكريين أمريكيين مع نظرائهم في كل من إسرائيل والأردن ومصر وعدة دول خليجية. وحسب المصدر فإن الاجتماع عقد في مدينة شرم الشيخ المصرية، وتناول استكشاف سبل التنسيق ضد تنامي قدرات إيران الصاروخية وذات الصلة ببرنامجها للطائرات المسيّرة. الأمر الذي دعا وسائل إعلام عديدة ومنها قناة (DW) الألمانية للتساؤل حول أهداف هكذا حلف؟، والعدوّ المفترض قيام هذا الحلف لمواجهته؟، وتفاوتت التحليلات في الإجابة على التساؤلين السالفي الذكر، فمن قائل إن قيام هكذا حلف إنّما هو لمواجهة التّهديد الإيراني في المنطقة، إلى آخر يعتقد بأن هكذا حلف إنما هو لمواجهة التمدّد الرّوسي في المنطقة باعتبار أن الحلف المذكور سوف يكون امتداداً لحلف الناتو وذراعاً له في منطقة الشّرق الأوسط.
وإذا كان من الصّحيح القول بأنّ زيارة الرئيس بايدن لم تثمر عن إعلان هكذا تحالف، إلا أنّ من الثابت أن العمل جار بهذا الاتجاه، ولا يمكن فهم تأخير هذا الإعلان إلّا في إطار عدم استكمال الترتيبات اللازمة لذلك من جهة، وعدم استعداد بعض الأطراف لهكذا إعلان في الوقت الحالي من جهة ثانية.
وفي تقديرنا فإنّ ما طرحته وسائل الإعلام المختلفة حول أهداف هكذا حلف وحول الأعداء المفترضين، وأخص منها الإشارة إلى إيران، والذي يتوافق مع ما رشح من تصريحات أمريكية وأردنية، إنما الهدف منه هو حرف الأنظار عن الأهداف الحقيقية، وذرّ للرّماد في العيون حول حقيقة الأهداف المناط بهكذا حلف تحقيقها، والتي يأتي في طليعتها تأبيد حالة الخراب التي أصابت المجتمعات العربية في أعقاب ثورات الربيع العربي، وتأمين ديمومة حالة الإخضاع والإذلال والتجويع والتركيع التي تعيشها شعوب المنطقة، بعد انتصار الثورات المضادة وتمكين قوى الاستبداد بكل أشكالها وألوانها، هذه الأهداف التي لا يتكامل في تحقيقها الدّور الإيراني مع أدوار أعضاء الحلف العتيد فحسب، بل إنّ إيران تقوم بمهمة مزدوجة على هذا الصّعيد؛ فهي تقوم بشكل مباشر بتفتيت المجتمعات العربية وتفشيل دولها وقمع محاولات شعوبها الرامية للنهوض والتقدم عبر أذرعها الميلشياوية المنتشرة في كل من لبنان وسوريا والعراق واليمن من جهة، كما أنها تقدّم الذّرائع والمسوّغات لقيام هكذا أحلاف، وبالتالي لمزيد من عسكرة المنطقة واستنزاف شعوبها وثرواتها من جهة ثانية، وفي الحقيقة فإن نظام الملالي الإيراني وأعضاء الحلف المفترض إنما يتبادلان إضفاء الشرعية لبعضهما بعضاً أمام شعوبهما، وذلك بالضدّ من مصالح هذه الشّعوب، ومن ضمنها الشّعب الإيراني، هذه الشعوب التي أصبحت توّاقة أكثر من أي يوم مضى إلى العيش بسلام واستقرار، وإلى إعادة بناء مجتمعاتها وبلسمة جراحها وترميم ما تهدم في كيانها وحياتها بدل الانجرار وراء حروب عبثية لا طائل منها .
لقد أثبتت أحداث الرّبيع العربي وجود مستويات عالية من التنسيق والدّعم المتبادل بين أنظمة الشّرق الأوسط وبرعاية وقيادة أمريكيتين، في مواجهة انتفاضات الشّعوب ومطالبها العادلة في الحريّة والديموقراطية والعدالة الاجتماعية، في وقت كانت هذه الشّعوب عاجزة عن تحقيق الحدّ الأدنى من التّضامن والتّنسيق فيما بينها، بسبب الاستبداد المديد الذي كانت ترزح تحته، الأمر الذي أدى إلى النتائج الكارثية التي وصلت إليها هذه الانتفاضات، رغم التضحيات الهائلة التي تم تقديمها، وهذا ما كشفه العاهل الأردني في المقابلة المذكورة آنفا حين أكد “إن الأردن يعمل بنشاط مع الناتو ويعتبر نفسه شريكًا في الحلف، بعد أن قاتل “جنبًا إلى جنب” مع قوات الناتو لعقود”، وأضاف: “أريد أن أرى المزيد من الدول في المنطقة تدخل في هذا الحلف”، والسؤال الذي يبرز هنا هو عن المكان الذي عمل فيه الأردن بنشاط مع الناتو؟ هل هو في أوكرانيا أم جزر الهونولولو مثلاً؟ أم أنه كان قاعدة انطلاق عمليات الحلف لدعم الثّورة المضادة في سوريا، وللإجهاز على حلم الشّعب السّوري بالانتقال الديموقراطي وبناء دولة القانون والمؤسّسات؟، وفي الحقيقة فإن ما جرى في سوريا يقدّم صورة ناصعة عن تكامل الأدوار الذي أشرنا إليه بين إيران ودول الحلف العتيد وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
إن وضعيّة التّسفيل والظروف غير الإنسانية التي فرض على شعوب المنطقة العربية أن تعيشها وتعاني مراراتها، والتي لا تلبّي الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم لهذه الشّعوب، تجعل هذه المجتمعات مرشّحة للقيام بالمزيد من الانتفاضات والثورات في المستقبل القريب، بل إن بعضها لايزال يحتل السّاحات كما نشاهد يوميّاً في السّودان وتونس والجزائر وغيرها، لذلك تسارع القوى المعادية لتطلعات هذه الشعوب لقوننة تنسيقها وتآزرها في مواجهة هذه الشعوب عبر اتفاقيّات وأحلاف تشرعن هذا التّنسيق وهذا التآزر، ولعل التدخّل السّعودي لقمع انتفاضة الشعب البحريني في الخامس عشر من مارس 2011، فيما سمّي حينها بعملية درع الجزيرة، والذي جاء بناء على طلب حكومة المنامة أن يكون نموذجاً لعمليّات الحلف العتيد في المستقبل.
إنّ نظرة متأنية ومقارنة بسيطة تظهر أن الحلف المزمع إنشاؤه ليس إلا نسخة جديدة من حلف بغداد، الذي تم إنشاؤه في خمسينيات القرن المنصرم، والذي أسقطته شعوب المنطقة عبر كفاحها ونضالاتها وتضامنها إبّان فترة المدّ القومي لهذه الشّعوب، وأن إعلان نسخة جديدة من هذا الحلف في هذا التوقيت بالذات ما هو إلا تتويجاً وتعبيراً وتكريساً لحالة الهزيمة التاريخية التي منيت بها هذه الشعوب في العشرية الثانية من القرن الجاري، والتي لازالت مفاعيلها تنيخ بكلكلها على حياة هذه الشّعوب وقد تستمر هذه المفاعيل لعقود عديدة قادمة.