fbpx

مواطنة واحدة لا أقليات ولا أكثريات

0 60

“غذّى التطبيق الآلي لمفهوم القومية الاوروبي الحديث على المجتمعات التي عرفت تاريخاً مختلفاً وتعدّدية بنيوية ودائمة العداوات والنزاعات داخل الأمم التي عاشت قرونا في انسجام رغم تعدديتها. وأدّى إلى مذابح إثنية في عديد من البلدان في آسيا وأفريقيا وقبل ذلك في أوروبا. وقد نجحت البلدان العربية، ربما أكثر من العديد من مجتمعات حديثة أخرى ناشئة، في أن تتجنّب هذا الخلط، وأن تتبنّى مفهوماً مختلفاً ومركّباً للقومية يستوعب التعدّدية الدينية والثقافية. ونشأت فيها وطنياتٌ ترتبط بالولاء للدولة، وتقوى وتضعف حسب تجسيد هذه الدولة إرادة المجموع. والسبب أنها لم تكن ترى في الجماعات المختلفة “أقليات” أي جماعاتٍ دخيلةً على جماعة نقية وخالصة من كلّ اختلاف، وإنما أصحاب أديان او منابت قومية مختلفة جميعهم أصلاء في بلدهم (وطنهم)، بصرف النظر عن القلّة أو الكثرة. وكان وجود هذه الطوائف وحضورها أمراً معطى لا يمكن إنكاره، وإنما ينبغي استيعابه جزءا لا يتجزّأ من الواقع الاجتماعي السياسي القائم، أي من الدولة ومن الذات السياسية إذا صحّ التعبير.

والواقع أنّ أمم الأرض جميعاً، والحديثة منها بشكل خاص، لا يمكن إلا أن تكون مكوّنة من جماعات متنوّعة، ديناً وثقافة وطبقات وفئات اجتماعية، يجمعها التفاهم الأساسي من حول مشروع حياة وطنية يصنعها أفرادها معا. وحتى داخل ما نسميها الأكثرية القومية أو الدينية هناك جماعات متميّزة. والشعب الذي ليس فيه إلا جماعة واحدة مُتطابقة مع نفسها ومُتماهية مع كلّ فردٍ فيها هو شعب بدائي لم يوجد أبداً أو لم يعد له وجود. بل إننا نجد التنوّع الديني والقومي شديداً في المناطق والبلاد التي شهدت وتشهد تقّدماً حضاًريا كبيراً. فالتقدّم/التطوّر يغذّي التمايز والتنوّع داخل الجماعة الواحدة، بل الأسرة الذرية نفسها، كما يجذب الآخرين القادمين من الخارج، وينمّي داخل المجتمعات القدرة على تقبّل الاختلاف واستيعاب التنوّع من دون أن تفقد توازنها.

والبلاد الأكثر تنوّعاً دينياً وإثنياً هي التي كانت مهد حضارات كبيرة، مثل الهند والصين والبلاد الإسلامية. وبالعكس، بقيت أوروبا الهمجية تطرد الأقليات الدينية والأقوامية خلال أكثر من ألف عام، وترى فيها خطراً عليها، إلى أن انتهت بتنظيم محارق لم يعرف التاريخ مثيلاً لها للطائفة اليهودية. وهي لا تزال تستخدم ضحاياها اليهود لفرض الاستسلام على بلدان الشرق الأدنى وإجبارهم على الطاعة والتسليم بوصاية الغرب الذي لا يتردّد في أن يعبّر عن كراهيته الإسلام، بعد أن أصبح جزءاً من نسيجه الوطني في أكثر من دولة، في كلّ حرب تُشنّ على شعوبه، ويستمتع بإضفاء صفة الصليبية على حروبه إثارة للأحقاد التاريخية.

لا يوجد اليوم شعبٌ من قومية صافية أو من عقيدة واحدة. وحتى لو لم تكن فيه تعدّدية دينية أو طائفية لا بُدّ أن تولد فيه تيارات ومذاهب مختلفة في نظرتها إلى التراث وتأويلاتها للعقيدة الدينية الواحدة. وبالتالي، لا يوجد شعب من دون اختلاف داخل صفوفه بين فئاتٍ متباينة. وقد كان النزاع بين اليسار واليمين في عديد من مجتمعاتنا في الخمسينيات أشدّ وأعنف منه بين الطوائف الدينية. وحدها القبائل البدائية تعيش في وحدة ثقافية قبلية مغلقة، وتنظر إلى أيّ اختلاف أنه دخيل عليها وتهديد لوحدتها وحرب ضدّها.

وأكثر البلاد تعدّداً إثنيا ودينياً وفكرياً هي اليوم الولايات المتحدة، أي الدولة الأكثر تقدّماً أيضا في عديد من الميادين العلمية والتقنية والحريات الاجتماعية والسياسية. وهذا التنوّع هو مصدر قوتها وإبداعيتها وديناميكية مجتمعها.

ينبغي أن نكفّ عن تصوّر التنوّع نقمة، كما علّمتنا الفلسفة القومية الغربية العنصرية، فهو نعمة. ولا حل إلا في تجاوز مفهوم “الأقليات” واستبداله بمفهوم أوسع يشمل حقوق الإنسان والعدالة للجميع، وهو المواطنة، مع وقف التدخلات الأجنبية التي تهدف إلى تقسيم المجتمعات والسيطرة عليها”.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني