مقدمات لا بد منها لنهضة سورية
من كثرة ما أصابهم، تندّر السوريون المتخبطون في مشاكلهم ومآسيهم بأن لا حلّ سوى بأن يأتي نيزك من الفضاء الخارجي ويضرب هذه الأرض ليريح الجميع من العذاب، لكن ما جاء بالفعل هو فيروس كورونا الذي ضرب العالم وشلّه وكشف عن نقاط ضعفه. ومع أن العالم سيخرج، ولو منهكا ً، من هذه المحنة، إلا أن هذا الحدث لن يمر ببساطة وسيترك أثرا ً ما على إعادة ترتيب الأوضاع العالمية، ومنها سورية.
بالطبع، ليس بوسعنا الاستكانة وانتظار التغيرات القادمة، فهي لن تبدل كثيراً من طبيعة المسألة السورية، أو من الدروس المستفادة من تسع سنوات من الثورة والحرب والدمار والنزوح والتهجير، وقد صار منظر قوافل المهجرين من منطقة لأخرى وحياتهم في الخيم الغارقة في الوحل يدمي القلوب ويوقظ ما بقي فيها من رحمة، لكن مع فائض من الشعور بالعجز والخيبة. كما أن غياب تمثيل حقيقي للسوريين في الوقت الحاضر لم يعد موضع نقاش، وأن تقاسم الدول النفوذ على أرضنا، وربما تقاسم الشعب، هو حقيقة أخرى أيضاً.
فهل ثمة أملٌ يلوح في الأفق بالفعل، أم أن على السوريين الاستسلام لمصيرهم وللقوى التي تدير شؤونهم في الداخل والخارج بما لا يتوافق مع مصالحهم المؤجلة؟ ومن أين سيأتي هذا الأمل الموعود؟ وما هي الشروط التي يتوجب توفرها حتى نؤمن بأن شعبنا، مثل كل شعوب الأرض، قادر على النهوض وإفراز نخبه القادرة على حمل قضيته وإخراجها إلى حيز الوجود والفعل من أجل تحقيق مصالحه الوطنية والتخلص من الخضوع لإرادات الآخرين وأجنداتهم؟
في إجابة مجملة عن الأسئلة الواردة أعلاه، يمكن استعراض العقبات/المخارج التي نعتقد أنها تعيق/تساعد سورية للمضي قُدماً في الطريق الصعبة نحو المستقبل:
أولاً، مسألة الاستبداد: الاستبداد علة العلل في أي صيغة ولون أتى، دينياً أكان أم دنيوياً، عسكرياً أو مدنياً. ولعل السوريين قد فهموا الدرس جيداً، وإن لم يفعلوا أو إن بقي تأثيرهم محدوداً في مصيرهم، فسيفرض الآخرون المهيمنون في سورية من يحقق مصالحهم هم، فرادى أو مجتمعين، ولو تطلّب الأمر مجرد إحلال مستبد مكان آخر.
ثانياً: مسألة استغلال الدين: في السنوات الأخيرة، ولأسباب تتعلق بالتحشيد الحربي، انتشرت الدعوات المذهبية لتحويل انتباه الناس عن المصالح الإقليمية والدولية الكامنة وراء استمرار الحرب، ولم يكن الصراع الديني (السني/الشيعي) المزعوم أكثر من وهم غرق فيه السوريون، وتم استحضار مظاهره التاريخية التي لم تعرفها سورية الحديثة منذ نشأتها. ظهر ذلك في المناطق التي هيمنت عليها الميليشيات المؤتمرة من إيران، وفي المناطق التي سيطرت عليها الجماعات الأصولية المتطرفة، والتي امتلأت بالشعارات واللافتات التي تعادي الديمقراطية والعلمانية وتربطهما بالكفر، في محاولة لإغلاق باب المستقبل، فأي سبيل سيسلكه السوريون ليوحدهم ويخرجهم غير الديمقراطية، نقيض الاستبداد الذي أوصلهم إلى ما هم عليه؟
تحرير الدين من استغلال السياسة وبالعكس، بات أمراً ملحّاً، ولا بد أن يُترك الناس وشأنهم ليحددوا طريقة تدينهم وإيمانهم من دون ضغوط خارجية. وإذا كانت الجماعات المتطرفة قد فقدت الكثير من مناطق نفوذها، ومعها البروباغاندا الدينية، فإن أي خطوة على طريق الحل السياسي ستفضي إلى تفكك الروابط بين النظام والجماعات الدينية الملحقة به، والتي يحاول إعادة ترميمها في محاولة لاستعادة تحالفه مع الأوساط الدينية التقليدية التي أصابها الانقسام والوهن بعد الثورة.
ثالثاً: مسألة الإيديولوجيا: وتقتضي بأن تكون الدولة في المستقبل محايدة وألا تستند إلى أية إيديولوجيا من أجل فرض هيمنتها، سواء أكانت قومية أو دينية، ما يزيل الغشاوة عن أعين الناس ويفسح المجال للمواطنة أن تتحقق بلا عوائق وتمايزات وامتيازات. يختلف هذا الأمر عن وجود أحزاب تأخذ بإيديولوجيات محددة في إطار دستوري ضامن، فالمطلوب هو فصل الإيديولوجيا عن الدولة وليس إقصاءها نهائياً، ذلك في النظام الديمقراطي اللامركزي المرجّح كمخرج من الحالة الراهنة.
رابعاً: مسألة إسرائيل: لإسرائيل دور مهم في وصولنا إلى هذه الحال، لسبب غير مباشر أكثر من كونه مباشراً، فقد عززت إسرائيل، ومنذ قيامها عام 1948، من نفوذ العسكر، لا لأنهم انتصروا عليها، بل لأنهم لم ينتصروا، ومن المعروف أن أول انقلاب عسكري قام به حسني الزعيم عام 1949 كان بحجة أو كرد على هزيمة حرب 1948 واتهام القيادات المدنية بعدم دعم الجيش وتأهيله لتلك الحرب. لاحقاً، تم رفع راية القضية الفلسطينية كشعار من قبل الدكتاتوريات العسكرية لركوب الموجة الشعبية والتهرُّب من استحقاقات التغيير الداخلية، ولم يقدم ذلك شيئاً ملموساً للقضية ذاتها، إن لم يكن قد أصابها بأضرار فادحة.
فيما يتعلق بسورية الحالية بعد الثورة، فقد حققت إسرائيل ربحاً صافياً، ويبدو أن موضوع التعامل معها، كدولة محتلة لجزء غالٍ من سورية، أمر مؤجل حتى تنتهي حالات الاحتلال والنفوذ الراهنة وتستقر سورية على حال من الأحوال. عندها قد تكون ثمة مقاربة مختلفة لا مكان فيها للعنتريات أو إطلاق التهديدات الجوفاء، فالأمر متروك أيضاً لما قد ينجم عن إعادة ترتيب شامل للمنطقة عن طريق صفقة القرن أو غيرها.
خامساً: مسألة النفوذ الإقليمي والدولي: النفوذ الإقليمي على نحوٍ خاص عبء ثقيل على سورية، ويمكن الحد منه من خلال اتباع سياسات محايدة تستند إلى مصلحة السوريين أولاً، كما يمكن، ويجب، أن يعمل النفوذ الدولي على الحد من النفوذ الإقليمي في حال تم التوافق على صيغة سياسية من أجل سورية المستقبل. ولن يحصل ذلك من دون دور سوري فاعل يحول دون تقاسم الدول ذات النفوذ لسورية على نحوٍ نهائي.
هذه العقبات الكأداء والمخارج المحتملة مرتبطة بخطوات إجرائية أخرى لا تقل أهمية، ومنها الإقرار الدستوري النهائي بأن سوريا وطن لكل السوريين، وتطبيق العدالة الانتقالية من خلال محاكمة مجرمي الحرب وإجراء المصالحات الفعلية، فضلاً عن هيكلة قوى الأمر الواقع السورية الحالية في إطار المؤسسات العسكرية والأمنية، كجزء لا يتجزأ من خطوات ضرورية لاجتياز المرحلة الانتقالية.