fbpx

“مشكلتنا فقط مشكلة أرقام!”

0 737

قبل أيام وعلى صفحة من صفحات الأنتيكا في مواقع التّواصل الاجتماعي وقع نظري على فاتورة حرّرها صائغٍ حلبي في عام 1938م، وأنا أدققّ تفاصيل الورقة مصفرة اللون وأتأمّل خط من صارت – ولابد – عظامه مكاحل، وجدتُ أن سعر غرام الذهب – عيار21 – حينها 85 قرش (الليرة السورية 100 قرش لربما نكون قد نسينا أن هناك عملةً أدنى من الليرة!) 

فاتورة أخرى تعود لعام 1976م حرّرها صائغ يُدعى إلياس فرح لسيدة اشترت سوارين (جوز مباريم) وكان ثمن الغرام الواحد حينها 12 ليرة، 12000ق.س. ارتفاع كبير في سعر غرام الذهب خلال ثمانية وثلاثين عاماً بلغ خمسة عشر ضعفاً أو أقل بقليل.

غرام الذهب اليوم وفي ساعة كتابة هذا المقال 146000 ليرة سورية أي 14600000 قرش سوري! أي أن السعر هذه المرة قفز خلال أربعة وأربعين عاماً أكثر من أحد عشر ألف ضعفاً!

بالطبع كلّ هذه الأصفار ليست نتيجة وضع البلاد فقط حيث أن سعر الذهب ارتفع عالمياً خلال هذه السنوات الطويلة إلا أن ضعف ليرتنا ساهم بتراكم الأصفار بشكل جنوني على الجانب الأيسر.

ارتبطت الليرة السورية منذ فتحت عينيها على الحياة بالفرنك الفرنسي، ثم تعلقت بالجنيه الإسترليني خلال الحرب العالمية الثانية، لترتبط بعدها بالدولار مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ومع انتخابات 1947 النيابية كان سعر الدولار يعادل ليرتين وتسعة عشر قرشاً 2,19 ليرة سورية ، ثم تصاعد ببطء وتكاسل حسب سياقات السياسة الدولية والمحلية وعانت الليرة كما عانى الشعب السوري من الانقلابات والتدخلات الخارجية؛ بقي سعر الدولار ما بين 45-50 ليرة مقابل الدولار الواحد حتى 2011، حيث عمّر الدولار درجاً من ردم هذه البلاد وركام أبنيتها وراح يصعد عليه، يرتفع شيئاً فشيئاً ليصل إلى 1256 ليرة سورية وفق نشرة البنك المركزي و2525 ليرة سورية وفق السعر الذي حدده المركزي أيضاً لبدل الخدمة العسكرية للمغتربين.

ما بين ليرتين وكسور وبين ألفين وكسور صار هناك ألف مكسورٍ ومكسور. 

في ذلك الزمن الذي يسميه مدمنو النوستالجيا زمناً جميلاً كان راتب موظف الحكومة حوالي خمس ليرات كاملة، حالياً وهو زمن بائس تتكاثر فيه الأرقام بدرجةٍ أسرع من دورة حياة ذبابة الفاكهة، أصبح خريج الجامعة يقبض خمسين ألف ليرة سورية، أضيف إلى الليرات الخمس المعجونة بالنوستالجيا أربعة أصفار كاملة، دون أن تقدم كل هذه الأصفار المضافة أي قيمة نقدية مضافة ولا شرائية ولم تكدّس حاجيات ضرورية في سلة مشترياته.

ولنبتعد عن المال قليلاً ونثبت أن مفهوم التضخم من الممكن أن يطبّق بمرونة تامة على حالات اجتماعية وثقافية ويرتبط، فلا يكون نقدياً واقتصادياً، التزايد الرقمي وليس القيمي طال كل شيء وكان عدد السكان أحد تلك الأرقام التي تحولت بطريقة عجيبة، فعدد السكان في سوريا وفق الإحصائيات الرسمية لعام 1950م حيث كان 3252000 نسمة، وصل إلى 23000000 نسمة عام 2011م، قامت الحرب بالتصدي لهذه الظاهرة فمحت أصفاراً وابتلعت مئات الآلاف من السوريين ولفظت مئات الآلاف خارج الحدود السورية، إلا أن الزيادة بقيت بالملايين خلال الستين سنة دون أن يرافقها زياده موازيه في الموارد ما جعل الفالق الاجتماعي كبيراً وعميقاً.

ولتساير “السياسة” عدد السكان المتزايد، زاد أعضاء مجلس الشعب ليصير التمثيل “عادلاً”، ولتصل أصوات الشعب بطريقة مسموعة إلى القيادات، فمن 140 عضواً في العام 1954م، قفز العدد إلى 225 عضواً حالياً، ولكنهم استخدموا ذات الصالة التي جلس فيها خالد العظم، وشكري القوتلي وفارس الخوري، فبدا المجلس الحالي محشوراً في مقاعد لا تكفي مع قلة حيلة بادية على الأبدان رغم زيادة العدد.

“جامعة دمشق” كانت الجامعة الوحيدة في سوريا وكانت تحتل مراتب مرتفعة ضمن التصنيف العالمي وكان لوقع اسمها هيبة ولخريجيها مكانة، تأسّست عام 1903م بدأت بمدرسة طبيّة، ثم مدرسة الحقوق 1913م، وفي عام 1923م تمّ دمج المدرستين لتكوين الجامعة السورية التي حملت هذا الاسم حتى 1958 حين غيّرت اسمها واعتنقت اسم المدينة التي حضنتها لتصير “جامعة دمشق”، وفي نفس العام 1958 أسست جامعة حلب ثاني جامعة في سوريا ومن ثم تلاحقت الجامعات السورية في مدن أخرى، جامعة تشرين 1971م في اللاذقية، جامعة البعث في حمص 1979م ، ثم لاحقاً أسست جامعات أخرى في بقية المدن كجامعة الفرات في دير الزور2006 وجامعة حماة 2014م، وجامعة السويداء أيضاً التي تعتبر فرعاً لجامعة دمشق؛ بقيت دمشق تصنّف الأولى بين الجامعات العربية وأحياناً الثانية بعد جامعة القاهرة حتى السبعينيات، بدأت تتراجع درجتها وتصنيفها العالمي بخطوات بطيئة، تسارعت بعد الحرب في 2011م حيث وصل ترتيبها 3533 حسب تصنيف webometric العالمي لعام 2020 (بتحسن عشرين مرتبة عن العام الذي سبقه) وهي الأولى بين الجامعات المشمولة بالتصنيف وعددها سبعة وثلاثون جامعة ما بين حكومية وخاصة بينما تغيب بشكلٍ كامل عن التصنيفات الأوسع انتشاراً أكاديمياً وهي (تصنيف شانغهاي، تصنيف التايمز وتصنيف Qs)، إذن ما فائدة الكم إذا لم تكن السّوية العلمية والأكاديمية وفق المستوى المطلوب.

ولا يخفى على أحد الفروق بين خريجي الجامعة بدفعاتها الأولى وما بين خريجي اليوم! بل بين حملة “السرتفيكا/الشهادة الابتدائية قديماً” وما بين حملة شهادة التعليم الابتدائية اليوم.

ما نراه في مجال العالم يعتبر تضخماً في عدد الجامعات وفي عدد الخريجين الجامعيين جعل العلم شعبوياً لا يرتدي سترة وربطة عنق ولا يتكلم بهدوء ورزانة، بل يهرول بـ (شورت) ممزق لاهثاً وراء ركب الحضارة الذي فاته متمتماً بكلامٍ غير مفهوم.

للأمانة فإن كلّ التضخم السابق يبدو مقبولاً إذا ما قارناه بالتضخم الإبداعي! 

أعداد الشعراء هذه الأيام زادت بشكل مريب، فيما سبق كان الشعراء قلة تجمعهم أصابع يدٍ واحدة، لهم مكانة اجتماعية مرموقة، أما الآن فعدد الشعراء تضاعف عشرات بل مئات المرات وبات الشعر متاحاً لكل عابر سبيل في اللغة، وكذا المجموعات الشعرية التي أصبحت متوفرة لـ(س) من الناس مقابل مبلغ يدفعه لدار النشر فتمنحك لقب شاعر، يزيد واحداً للشعراء وصفراً للقيمة الأدبية أو الجمالية، فلا صنعة رصينة ولا إبداع منفلت، مجرد شعراء تتكاثر عبر صفحات الفيسبوك. 

كل شيء يزداد، الأصفار تتناثر من حولنا كتناثر ندف ثلج في يوم كانوني، استغرق الأمر كثيراً من التّأمل لأعرف أصل المشكلة هنا، إذ لابد من وجود لعنةٍ ما رماها أحدهم وتركنا نربص تحتها لسنوات طويلة، لابد من أسبابٍ منطقية تفضح سرّ هذا الوضع، وتهتك ستر فساده ومشاكله، المشكلة كلها مشكلة أرقام إذن! 

أصفار كثيرة ملأت الخانات كل صفرٍ منها تجعيدة في وجه هذه البلاد، أصفارٌ كثيرة ملأت الجيوب، أصفارٌ لم تنفع سوى سيئي الذكر الذين استطاعوا تكديس الأصفار يمين أرقام حساباتهم البنكية.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني