مشروع دستور لسوريا الجديدة – المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية
المحامي أنور البني
رئيس المركز السوري للأبحاث والدراسات القانونية
نشا القانون مع نشأة الدولة كشرط لازم لها، فنظّم شؤونها، وبضمن ذلك علاقات الناس فيما بينهم بعضهم/نّ ببعض، وحقوقهم/نّ وواجباتهم/نّ، أفراداً وجماعات، وإلى حدٍّ بعيد كان تطوّر الدول، وبضمن ذلك الحقوق وصولاً إلى المواطنة، هو نتيجةَ تطوّر القوانين، وأهمّها الدستور بِصفتِه رأسها، الذي يفرض سيادة القانون على الحاكم والدولة وليس على المحكومين/ات فقط كما كان الحال قبله.
فالدستور منذ نشأته حدّد الحقوق وضَمِنها، ما أتاح له أن يكون في تطوّره المضطرد، موجّه التطور والتقدم في الدول، وحامي مجتمعاتها، ووعاء اتساع قاعدتها الاجتماعية على صعيد المساواة والحقوق والثقافة، عبر عملية تراكمية جرت خلال مسيرة تاريخية طويلة، ومع أن القرن العشرين عرف تنويراً حقوقياً واسعاً على صعيد البشرية إلا أن النجاح في تحوّله إلى دساتير حرّة تحمي حقوقهم كان متفاوتاً بين دولهم، ما أدّى إلى حصول موجاتٍ من الحراك المطلبي من أجل ردم الفروقات بين الدول والمجتمعات، عبر المطالبة بتعميم دستور ديمقراطي وسيادته على الحكومات والمجتمع لتحقيق دولة القانون الخاصة بكلٍّ منها.
ولأن القانون بات في عصرنا، عصر المؤسسات والقانون والاتفاقيات الدولية، عصر شرعة حقوق الإنسان، شأناً إنسانياً عالمياً، ومنتَجاً حضارياً، فقد أصبح يرتبط بالثقافة الإنسانية التنويرية المعنية بقيم المساواة والعدل والحقوق والديمقراطية، وهو ما يظهر أثره في ثقافة الناس في كلّ مكان على صعيد البشرية؛ بدليل تكرار موجات النضال الديمقراطي لتبنّي هذه القيم في البلدان التي لم تحترمها حكوماتها أو دأبت على انتهاكها، ما أظهر أن القوانين الحرّة وثقافتها تجري تغييراً في ثقافة المجتمعات حتى منها من كان حتى وقتٍ قريب أسيرَ أوضاعه المتخلّفة التي تعاند التطور والمساواة والعدل وحقوق الإنسان والديمقراطية.
الدستور كما آل إليه الحال في تطوّره المضطرد، ليس عقداً اجتماعياً تتفق به الأغلبية، على اختلاف مكوّناتها، لتتجاوز أو تغّيب حقوق الأقلية على اختلاف مكوناتها، بل هو قواعد قانونية تصاغ بأيادٍ خبيرة دستورياً ومحايدة بحيث تسمح للمواطنين/ات جميعاً أن يكون لهم حقوقهم/ن ومشاركتهم/ن السياسية دون انتقاص أو تجاهل أو تمييز على أساس جنسي او ديني أو طائفي أو قومي أو سياسي. وهو ما يعني أن يبنى الدستور بشكل يحافظ على حقوق الجميع دون تمييز، ومما يضمنه أن يكون للأغلبية البرلمانية، المنتَجة عن تصويت حرّ وديمقراطيّ، السير في برنامجها الذي انتُخبت بناءً عليه، في الوقت الذي يحمي الأقلّيّة البرلمانية، إن كان بمنع أيّ إجراء، أو قانون جديد، إن أقرّته الأغلبية، وخالف الدستور، أو مسّ وجود الأقلية البرلمانية أو ألحق ضرراً فادحاً بناخبيها، وأدّى إلى إغلاق السبل على الأقلية البرلمانية للتحوّل إلى أغلبية في انتخابات مقبلة. كما ينظّم الدستور، والقوانين المشتقّة منه، حماية حقوق الأقليات الدينية والقومية والطائفية من أي تغوّل من قبل الأكثرية ويكافح التمييز. وهو ما يعني في مجتمعنا أن يكون مضموناً حقُّ الترشّح والانتخاب لكلّ المواطنين/ات دون تمييز، وهو ضمانة حاسمة لاجتماع السوريين/ات على الديمقراطية بعد انقسام، ولإتاحة كلّ الحقوق لهم/نّ ليعيشوا/ليعِشْنَ معاً أحراراً متساوين/ات. وبالتالي يمكّن الدستور الديمقراطي الجميع من حقوقهم/نّ، بغضّ النظر عن العرق أو الجنس أو الدين أو الطائفة أو الموقف السياسي، إذ يتيح لهم/نّ أن يعيشوا في فضاء حرّ، ويمنع أَسْرَهم/نّ في أُطر دون مواطنية، في الوقت الذي يحمي فيه حقّهم/نّ في الاعتقاد والممارسة الثقافية.
إن المحكمة الدستورية تتكفّل بحماية هذه الحقوق وصيانة الدستور نفسه، ويكون تطبيقها من خلال البرلمان المنتخب، الذي يشرّع القوانين ويضع أسس الحكم استناداً إلى مستوى التطور الدستوري عالمياً، وإلى القانون الدولي، وشرعة حقوق الإنسان.
إننا في المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، نؤمن آن السوريين/ات في صدد وضع أحدث دستور في العالم، وأننا يجب أن نستفيد من كلّ التجارب الدستورية في العالم العربي والغربي والشرقي، وأن نتجاوز المشكلات التي وقعوا فيها ونستفيد من الأخطاء، وأن نستفيد كذلك من التجارب الناجحة التي أنتجت دولاً قوية وحضارية ومتقدمة، ليكون المنتَج السوري من أفضل المنتجات العالمية على صعيد الدساتير المتطورة.
ولذلك فقد أنجزنا عشر ورشات للثقافة الدستورية، شارك فيها حوالي مئتَيْ سوريّ وسوريّة من مختلف الأعمار والمناطق الجغرافية والأديان والطوائف والقوميات، وبناءً على النقاشات والأفكار التي طُرحت في الورشات تلك وتبادل الأفكار، خلصنا إلى إنجاز مشروع دستور نضعه بين أيدي السوريين لنبني سوريا كما طالب بها السوريّون/ات عندما انطلقت أول صرخات ثورتهم: ” حرّيّة – حرّيّة” بغرض وضع أسس ووسائل لحماية مستقبلنا من تكرار ما حدث، وبداية ليكون أداةً جامعة لإحياء الروح الوطنية وبدء وقف التدهور الحاصل. وبالتالي نأمل ألّا تكون مناقشته بناءً على ما نعيشه اليوم، وما نمرّ به من صنوف الألم والمرارة والإحباط، وإنما بناءً على ما نتمنّاه لأولادنا وأحفادنا: العيش في وطنٍ يعتزّون به ويضمن لهم كلّ حقوقهم. كما نأمل أن يشكّل هذا المشروع، من خلال الدعوة للمشاركة في مناقشته وتصويبه وإنضاجه، منارةً ومظلّةً لكلّ القوى المؤمنة بالحرية والديمقراطية، ووثيقةً لتوحيد جهودهم في بناء رؤيةٍ موحّدة للمستقبل.