ماكدونالد في دمشق؟!
يعوّل الكثير من المعارضين السوريين على الولايات المتحدّة الأمريكيّة في فرض حلّ نهائي للمأساة السوريّة، ويعتبرها بعضهم صاحبة اليدّ العليا في الملف السوريّ، وهي من تتحكّم به وتوزّع الأدوار على اللاعبين الأساسيين فيه سواءً كانوا لاعبين محليّين أو دوليّين، ولكن سياسة الولايات المتحدة في سوريّة تقول غير ذلك.
فمن المعروف بأن الولايات المتحدّة تتعامل مع القضايا الدوليّة وفق أولويّات مُحدّدة، ولِيقينها بأنّه لا يوجد في هذا العالم من يجرؤ على التفكير بالاعتداء عليها داخل حدودها وضعت في أعلى درجات سلّم أولوياتها الحفاظ على الأمن القومي الأمريكي، وعلى المصالح الحيويّة الأمريكيّة خارج حدودها، وعندما تُقرّر أن هناك تهديد جدّي وخطير لا تتردّد باللجوء إلى القوة المُفرِطة للقضاء على مصدر هذا التهديد، وهو يُعرف بــ ’’مبدأ كارتر’’ الذي أقرّه الرئيس الأمريكي جيمي كارتر في عام 1980 لتحذير نظام ’’الخميني’’ في إيران من تهديد دول الخليج، والذي يقوم على أنّ: أية محاولة من جانب قوة خارجية للسيطرة على منطقة الخليج سوف تعتبر اعتداء على مصالح الولايات المتحدة الأمريكية الحيوية وأنه سيتم صد مثل هذا الاعتداء بكل الوسائل الضرورية بما في ذلك القوة العسكريّة.
وعندما يكون التهديد ناتج عن صراع أيديولوجي وسياسي طويل الأمد وبهدف فرض الهيمنة الأمريكية على دول العالم تلجأ إلى ما يُعرَف بـ “سياسة الاحتواء والردع” والتي ترتكز إلى فكرة ضرب حصار طويل الأمد وسياسة حازمة لترويض ’’الخصم’’ واحتواء سياسته العدوانيّة انطلاقاً من فرضية ديمومة عداء ’’النظام المستهدف’’ نحو الغرب، وهو ما نجحت به في التعامل مع النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، والنظام الإيراني، وفي إسقاط الدولة العراقية من خلال إسقاط الرئيس صدّام حسين، والحصار المفروض على النظام الشيوعي في كوبا، والنظام الشيوعي في كوريا الشماليّة. وفي هذه الفترة كان يُطلق على الولايات المُتحدة الأمريكية بأنّها ’’شُرطيّ العالم’’.
ولكن وبعد سقوط وانهيار النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي تبدّلت السياسيّة الأمريكية مع النظام الروسي الجديد عبر تشجيعه للتحوّل نحو الديموقراطيّة وإدماجه في المؤسسات والمنظمات الدوليّة ومشاركته في وضع سياسات الأمن والدفاع الدوليّة، وهو ما يُعرف بــ ’’مبدأ كلينتون’’ في عهد الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في ولايته الثانية الممتدة من عام ’’1997 إلى عام 2001’’ ويرتكز هذا المبدأ على وثيقة الأمن القومي لعام 1994 في نقض سياسة الاحتواء والردع، بأن فكّك الترابط بينهما من خلال إسقاط الالتزام بالردع وعدم التعهد بعدم اللجوء للتدخل العسكري باعتبار أن انهيار الاتحاد السوفييتي أدى الى ضعف القدرات العسكرية للعدو الشيوعي وانتقال روسيا إلى ديموقراطية ناشئة، وبناءً على قاعدة التي تقول: ’’بأنّ الديموقراطيات لا تحارب بعضها’’ أصبح معيار الديموقراطية عند الأمريكان هو وجود السيطرة والتبعيّة الاقتصاديّة، ما أوجد نظاماً عالميّاً متعدّد الأقطاب مع احتفاظ ’’الولايات المتحدّة’’ بقيادته كونها الضامن الأقوى ’’للأمن والسِلم الدوليّ’’ ومنح الأعضاء هامشاً للتحرّك مع الحفاظ على مبدأ ’’التابعية’’ وتشجيع هؤلاء الأتباع على حل المشاكل المحلية وفق السياق الأمريكي الشامل. وينتقل دور الولايات المتحدة من ’’شرطي العالم’’ إلى دور ’’الحارس الليلي’’.
ومن مظاهر الديموقراطيّة الأمريكيّة انتشار مطاعم “مكدونالد” في أي دولة حتى يتم تصنيفها ’’دولة ديموقراطيّة’’ وبالتالي عدم التفكير في شنّ حروب ضدها وهذا ما تفسِّره المقولة الشعبيّة الأمريكيّة: ’’لم يسبق أبداً لبلدين فيهما مطعم ماكدونالد أن حاربا بعضهم بعضاً’’، كما هو حال الصراع بينها وبين روسيا والصين اليوم، وما إن بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا كان إخلاء ’’المكدونالد’’ وفرار الديموقراطية معها من روسيا، وبدأت الحرب غير المباشرة هناك بين الولايات المتحدة وبين روسيا.
وقد اتبعت الولايات المتحدة الأمريكية سياسة خاصّة جدّاً في سوريّا، فقد تخلّت عن دورها كشرطي العالم، وتخلّت أيضاً عن دورها الأخير كــ “حارس ليلي للعالم” وهو أقرب إلى دور ’’مُراقِب السلوك’’ في مركز الحجر الصّحيّ أو ’’الباحث الاجتماعيّ’’ في مراكز رعاية الأحداث الجانحين، فلاهي ترغب بإسقاط الأسد، ولا تسمح لأحدٍ بإسقاطه، وهي من تتحكّم بعلاقات الغير معه، وتسمح لمن تريد وتحظر ذلك على من تريد، وهي القادرة على إنهاء المأساة السوريّة خلال ساعات. ما جعل الأسد أطول عمراً وأكثر تعافياً عن ذي قبل عندما كانت الثورة في أوجها، وهي تعيش حالة من ’’التوطين’’ في علاقاتها معه لأنها في مواجهة عسكريّة مباشرة معه لا تفصل بينهما سوى السواتر الترابيّة وفي أماكن أخرى لا يوجد ما يفصل بينهما، ورغم ذلك لم تسمح لأيٍّ من الميليشيات المرتبطة بها بإطلاق رصاصة نحوه.
وأخطر ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية هو استنساخ تجربة ’’طوق الديموقراطيّة’’ في تعاملها مع الأنظمة الدكتاتورية في أمريكا الجنوبيّة والتي تقوم على مبدأ ’’تفكيك الأنظمة الدكتاتوريّة’’ من خلال خلق وفرض نماذج ديموقراطية وتقديم المساعدات السياسية والعسكرية والاقتصادية لها وهو ما يتجلّى في تجربتها ’’الإدارة الذاتيّة’’ مع قسد ومسد في منطقة شرق سوريّة، كنموذج لفرض نظام حكم فيدرالي في سوريّة يتكوّن من عدة أقاليم أو إدارات ذاتيّة ’’ديموقراطيّة’’ دون تحمّل عناء ومسؤوليّة إسقاط نظام أسد. دون إعطاء أيّة أولوية للمبادئ الأخلاقية أو لمبادئ القانون الدولي أو القانون الدوليّ لحقوق الإنسان أو القانون الدوليّ الإنساني، فهي تستخدم القوة والخداع والخيانة لتحقيق مصالحها فقط في أبشع صورة ’’للميكا فيلّيّة’’.
وهي لا تختلف كثيراً عن تلك الدوّل التي لم تزل تحتفظ على علاقاتها مع النظام المُجرم أو التي تحاول إعادة تطبيع علاقاتها معه، فالجميع يساهم في إعادة إنتاجه وإعادة تعويمه لتحقيق مصالحهم على حساب الشعب السوري العظيم، دون أي اعتبار لأي قيمة أخلاقيّة أو قانونيّة، وجميعها انقلبت أدوارها إلى ’’وساطات’’ لفرض التسويات والحلول الوسط، بعد تحقيق مصالحها بدأت بالضغط على ’’الشعب السوريّ’’ الرافض لوجود بشار اشد ونظامه، وتصنيع معارضة تقوم بتنفيذ مخططاتهم، وعبر إيجاد ’’خرائط طريق’’ تسير باتجاه واحد نحو مشاركة هذه المعارضة ’’الأداة’’ من النظام السوري عبر فرض ’’التفاوض’’ سبيلاً وحيداً للتعامل مع الملف السوري ومنع الثوار من إسقاطه بالطرق المشروعة الأخرى، وإجبارهم على تقديم تنازلات غير متوازنة، عبر عمليات المساومة والابتزاز والضغط. وفي النهاية فإن المجتمع الدولي لا يريد إسقاط الأسد وإنّما يريدونه أسدا معدّلا وراثياً على نمط النعجة ’’دولّلي’’ وعلينا ألّا ننسى بأنّ التفاوض البوابة الرئيسيّة للتطبيع، وبأنّ العقوبات الدولية ضرب من ضروب الاحتواء والضغط باتجاه التفاوض وعلى الأخص قانوني قيصر والكبتاغون وهي إجراءات ثانوية بديلة عن الإجراءات القانونيّة الأخرى التي تنزع شرعيّة النظام، وبأنّ المحاكمات الوطنيّة الأوروبية هي أيضاً ضربٌ من ضروب الضغط والاحتواء لأنها مازالت بديلة عن مسار العدالة الجنائيّة الدوليّة المتمثِّل بالمحكمة الجنائيّة الدوليّة، وكل ذلك لأنّه لا ينتقص من شرعيّته أبداً والدليل على ذلك أن بشار أسد ما زال يتمتّع بالحصانة السياسيّة والقانونيّة التي تسمح له بدخول أي دولة في العالم دون التعرّض له حتى تلك التي تصرخ في وجهه وتعتبره مجرم حرب لأنّ قوانينها الوطنيّة ما زالت تأخذ بمبدأ الحصانة ما دام صاحبها على رأس عمله.