fbpx

ماذا بقي من الثورة

2 920

من كان يتصور قبل عام 2011، أن الشعب السوري يمكن أن يكسر حاجز الخوف ويثور ضد النظام البوليسي الفاسد الذي بناه حافظ الأسد على مدى 30 عاماً وتابعه ابنه بشار. 

لكن السوريين فعلوها وفجروا أعظم ثورة في التاريخ وأقول “أعظم” لسبب بسيط وهو أن الثورة السورية ولدت يتيمة ووقف ضدها كل العالم تقريباً بشكل مباشر أو مستتر تحت غطاء “أصدقاء” أو غيرهم لأن الكل بحث عن أجنداته الخاصة ولم يتمسك أحد بمطالب الشعب السوري العادلة وهي التحرر من قبضة عصابة الأسد وشبيحته.

مضت تسع سنوات ونيف على انطلاقة هذه الثورة وجرت مياه كثيرة وتوضحت حقائق وتغيرت مواقف وانكشـفت سياسات وأصبحنا الى حد كبير نميز الخيط الأبيض من الخيط الأسود.

عرفنا أن النظام البوليسي الذي بناه الأسد الأب هو جزء من منظومة مافيوية عالمية قام بوظائف دولية وإقليمية ومحلية كلها تصب في خنق الشـعب السوري ومنعه من لعب دور حضاري وريادي في سوريا والمنطقة، وكذلك كان نظام الأسد حربة وجهت ضد الشـعوب المجاورة لسوريا، كما خدم النظام أيضاً دولاً كبرى وخاصة روسيا وأمريكا ودولاً أوروبية وإقليمية. 

لنتذكر كم كانت علاقة الأسد، قبيل الثورة، بأغلب زعماء العرب والعالم جيدة وممتازة علماً أنه كان يمارس سياسة الاستبداد والطائفية والفساد. 

لا مشـكلة لدى العرب ولا دول العالم الحر الذين يدعون الديمقراطية وينادون بالحرية والمساواة والديمقراطية، في وجود نظام أمني قمعي مافيوي في سوريا استمر لعقود منذ 1970 وحتى اليوم. شـهدنا منذ عام 2011 ونشـهد تدخلات الجميع من خارج سوريا الذين “زادوا الطين بلة” وأطالوا بعمر النظام عن قصد أو نتيجة حسابات خاطئة لدى بعضهم الذين دعموا الثورة في بداياتها ولكن قصـر نظرهم السياسي والاستراتيجي نقلهم الى خارج ساحة التأثير.

هل كان بإمكان إيران أن تبسط نفوذها وتهيمن على القرار في العراق – أهم دولة عربية – لولا الاحتلال الأمريكي عام 2003 وتسليم العراق لإيران على طبق من ذهب. وهل هيمنة إيران الواسعة في سوريا تم بدون ضوء أخضـر أمريكي ودولي وهل سيطرة حزب الله على لبنان بدون رضى أمريكي وإسـرائيلي. أما عن اليمن فحدث ولا حرج فكيف لمجموعة طائفية صغيرة مثل الحوثيين أن تهيمن على معظم أراضي اليمن والعالم يتفرج، علما أن الشـعب اليمني مسالم ولكن الحوثيين بمساعدة المقبور علي صالح أشـعلوا حرباً مدمرة. وبدون شـك تقف إيران في أول قائمة المسؤولين عن مأساة اليمن وبلاد الشـام.

هل ناصـر أحد الثورة السورية حقاً؟

هناك من دفع الأموال والسلاح، ولكن لا أحد سمح للسوريين بالتصـرف باستقلالية لوحدهم وإلا لكانوا أسقطوا الأسد خلال سنتين على الأكثر، لقد نصبت قوى وشـخصيات “معارضة” نفسها ممثلة للثورة وعملت على إجهاضها لأنها لم تفكر يوماً بالاحتياجات الفعلية للثورة والشـعب ولم تضع استراتيجية للعمل لنصـر الثورة، بل انشـغلت بأجنداتها الخاصة الحزبية والشـخصية وأجندات الدول التي أمسكت بقرار الثورة ومصيرها.

هناك من يعتقد أنه لولا روسيا لانتصـرت الثورة، ولكن الحقيقة أن التدخل الروسي جاء بإرادة دولية ودعم ممن يسمون أنفسهم أصدقاء الشـعب السوري فهناك ضوء أخضـر أمريكي وهناك دعم مالي عربي لروسيا. إذاً مَن مع الثورة بصح وصحيح؟

من عادة النظام أن يستخدم شـعارات لكي يجهضها ويفرغها من محتواها مثل الوحدة والحرية والاشـتراكية وغيرها، وكذلك ادعى النظام أن هناك مؤامرة كونية ضد سوريا (ويقصد ضده) ولكن الحقيقة أن المؤامرة الكونية كانت صحيحة ولكنها أولاً ضد سوريا كبلد وشـعب وضد المقدرات والبنية المادية والمجتمعية وضد الثورة، وأعتقد أن النظام لن يسلم من هذه “المؤامرة الكونية” ليس لأنه مستهدف بها بل لأنه أدى دوره ودمر البلد وقتل وهجر قدر ما استطاع برعاية دولية واليوم يفكرون بتغييره “بطريقة ما وبحدود معينة يرسمها اللاعبون المتحكمون بمصير الشـعب السوري”، فالخطة الدولية لتدمير سوريا أمر واقع وحقيقي وليس تكهنات. وكل ما ينتج عن ذلك تحصيل حاصل.

هناك من يعتقد أن تهجير الملايين من منازلهم وتحقيق تغيير ديموغرافي كبير هو نتيجة الحرب ووحشـية النظام ولكن الحقيقة أن الهدف كان هو التهجير أما الحرب فهي وسيلة.

لا يمكن فهم ما جرى بسوريا بعيداً عن النظرة الاستراتيجية والجيوسياسية للمنطقة ودور اللاعبين الدوليين.

يتضح اليوم بجلاء بأن سوريا أصبحت ساحة صـراع دولي مدمر ليس صدفة، بل هناك أسباب، أهمها وجود إسـرائيل على حدود سوريا، وكذلك لما للنظام السوري من أهمية بالنسبة للنظام المافيوي العالمي.

ويبقى السؤال ماذا بقي من الثورة؟

أولا لنسجل بأن الثورة ليست فعل المعارضة السياسية أو المسلحة بل هي ثورة الشـعب السوري في مختلف المدن والقرى قام بها ملايين الشـباب والناشـطين مدنيين سلميين غير مؤدلجين وغير مسلحين وغير إسلاميين. لذلك فإن فشـل المعارضة بأشـكالها كافة وتخاذل الفصائل المسلحة وبيعها للثورة لا يعني أن الثورة انتهت؟ 

الثورة هي قبل كل شـيء فعل سياسـي واجتماعي وثقافي وفكري، وهي إرادة من قام بها، ونتيجة إصـرارهم على التحرر ونيل حقوقهم في الحياة الحرة الكريمة. وبالرغم من أنهم فقدوا أبسط مقومات الحياة الإنسانية وقدموا مليون شـهيد وخسـروا منازلهم، لم يعد ما يخشـون عليه. ورأينا مظاهر الاحتجاج والتظاهر في شـمال سوريا وجنوبها بالرغم من الجوع والبرد والحرمان.

الحرية لا بديل عنها ومعركة الحرية مع عصابة الأسد لم تنته بعد و”سيضحك من يضحك أخيراً” كما يقول المثل.

الشـعب السوري حي يرزق وهو باقي ولكن الأنظمة مهما طالت ستزول وتتغير وإن كان ثمن استمرارها غال يدفعه الشـعب قبل غيره.

الثورة رسخت القناعة لدى الأحرار والشـرفاء بأن قضية الحرية غالية الثمن ولا يمكن التراجع عنها فما دفع أغلى من أي شـيء ويجب الوفاء لدماء الشـهداء.

ومازالت هناك أمراض وسلبيات يجب أن تعالجها القوى الثورية وتتخلص منها  سواء كانت مزمنة أم مكتسبة من خارجها.

اليوم يقف السوريون أمام مشـهد سوريالي: بلد مدمر وشـعب مشـرد وجائع وقلق وبقايا عصابة تتشـبث بالسلطة والثروة ودول تعمل جاهدة لصالح العصابة أملاً منها في تلميع صورتها ولو لفترة لتحقيق ما تريده تلك الدول وليس لاعتبارات تخص مصلحة الشـعب السوري، فلو كانوا مع الشـعب السوري لما تدخلوا ودعموا عصابة مستبدة وفاسدة ارتكبت جرائم بحق الإنسانية.

الثورة لم تمت مادام هناك من يحمل رايتها ولأنها شـعلة تشـع وتدعو الثوار للاستمرار في النضال من أجل حرية شـعبنا ووطننا من الطغاة والغزاة والبغاة.

الثورة فجرت الوعي الثوري والسياسـي بين السوريين وخاصة الشـباب منهم الذين ولدوا وترعرعوا في مسيرة الثورة وذاقوا طعم الحرية إنهم جيل الحرية والتمرد على كل شـيء فلا نظام الأسد مهما استمر في الفترة القادمة ولا روسيا ولا إيران ولا أمريكا وغيرها قادرون على إعادة السوريين الى السجن الكبير الذي يدعى “سوريا الأسد”

وواجب كل سوري لديه الخبرة السياسية والنضالية والفكرية والتنظيمية أن يوجه كل أنظاره إلى الشباب السوري ويعمل على توعيتهم لأنهم هم الأمل الأخير لدى شعبنا في استعادة راية الثورة من المتسلقين والانتهازيين ومن المدعين الفاشلين وهم كثر، والشباب السوري لديه الإرادة للاستمرار في الثورة بالطرق المتاحة للعمل على تحرير البلاد من الاحتلالات الداخلية والخارجية كافة.

ولكن بلورة الوعي السياسـي والثوري هي المهمة العاجلة أمام كل الشـرفاء القادرين على تقديم يد العون بدون وصاية على الشباب أو أدلجة أو استغلال كما جرى في فترة الثورة. والعمل على إيجاد منصة سياسية سورية واسعة للقاء السوريين على أمل أن يتمخض عنها قيادة للعمل الوطني لم تتلوث أيديها بالدم أو الفساد.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

2 التعليقات
  1. […] ماذا بقي من الثورة […]

  2. ياسر الحسيني says

    كلام سليم وتوصيف دقيق لسياق الثورة ومآلاتها، ولكن المعضلة الحقيقية تكمن في نهاية المقال، فمن ياترى سيتصدّى لهذه المهمة في هذه المرحلة الحرجة والحاسمة من عمر الثورة ونحن على أعتاب انهيار النظام وليس في الساحة سوى المتسلّقين والمعارضات المفصّلة على قياس الدول التي دمرت البلد؟!! .. مودتي د. محمود

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني