fbpx

للحياة وجهان.. أحدهما هو الموت.. قراءة في رواية “قحطستان” للكاتب أكرم منذر

0 388

يعود أكرم منذر من جديد في إصدار ثانٍ من سلسلة نزيف السنديان عن دار كيوان، هذه المرة ضمن كتاب من فئة القطع المتوسط أيضاً في ثلاثة وعشرين فصلاً لم تختلف عن سابقاتها من الجزء الأول فيما يتعلق برتابة النص والطريقة التي بدأنا نعتادها من الكاتب، قحطستان.. النص الذي تتوافر فيه من الميكانيزمات ما يشد حواسك طيلة تلك الرحلة، نص يتكئ على مساحة كبيرة من التاريخ الحديث لمنطقتنا المعزولة في الأصل عن التاريخ، والمليئة بكل مفاهيم الدسائس والخراب، نص يعترف كاتبه بالعموم أنه جاء متأخراً في حياته، لا ضير إذن يا أكرم، فمارسيل بروست نشر أعماله الأدبية في عمر متأخر، وحقق شهرة كبيرة بعد ذلك، النضج الأدبي في النص والطريقة المشغول عليها يدل على كاتب يعي أدوات هذه الصنعة وخفاياها، لا أخفي سراً إذ أنادي بولادة مبشرة لسلسلة رائعة كهذه من أدب الرواية.

جدلية النص/الأطروحة

“يخترع الإنسان الإيمان مواساةً لنفسه وتقوية لها أمام أعتى الكوارث والخسائر، وقد لا يصدق الفقد إلا بعد حين”

“في زمن الحرب يتغير إيقاع الحياة، يغدو الموت جزءا لا يتجزأ من نشرة أخبار الفزع”

كان لنا سابقة احتكاك مع ذهنية الكاتب فلسفياً في نصه السابق، وها هو يعود الآن أكثر قسوة من ذي قبل على صعيد النهج السردي، أطروحة القحط لم تنته، والعوالم المنبثقة من طبيعة العلاقة القائمة بين الجغرافيا/المكان وبين التاريخ/الحب – التراث والعداوة، لم تنشأ بشكل عبثي، الوقائع تقول أن الجذور تنبت في تربة متصالحة معها، لم يكن شاهين بذاك الشخص القادر على التماهي في بيئة قحطستان، ولم يكن أيضاً الحاج خنيفس بتلك الشخصية القادرة على الانفصال من تلك البلاد/الجذور، إذن فنحن أمام جدلية ذاتية تفرض نفسها بالكثير من الخيال، وبالمزيد من المعرفة، وايضا بالعديد من اللامنطق الذي يقود مشاعل نحو مصيرها – الحب/النهاية، المتاهة التي وضعنا فيها الكاتب، سيميائية العلاقة بين الشخصيات فيما بينها وبين محيطها، شرعنة التبرير وتبرير اللامعقول في عالم يضج بالفساد واللصوص والمصالح، والأهم هو إيجاد مهمة للقارئ في صناعة مخرج له من مأزق الذاتية والموضوعية الذي زجنا به الكاتب، كل هذه العناوين هي محض أسلوب لا مفر منه إلا بدراسته عن قرب، والعودة من جديد إلى مفهوم القطيعة الابستمولوجية عند غاستون باشلار.

النقد والنقد الفنومنولوجي

في حوارية شاهين وعلوش نجد صورة من صور النقد الديني، أعتقد أن الكاتب كان يعود بنا بصيغة مبسطة إلى مراجعات قديمة ل صادق جلال العظم في محاولاته لشرح مضمون الأيديولوجية الدينية من حالتها الضمنية اللاشعورية إلى حالة أكثر انضباطاً من الناحية الفكرية والمنطقية، يتصدى الكاتب لكل المنطلقات الغيبية التي تلغي العقل وتنفي الأسئلة، ويتوجه بالعديد من الأجوبة المفتوحة على نطاق المشتركات التي تربط ما بين هزائم المنطقة سياسياً واجتماعياً وبين إقحامه هذه المسألة في التأثير على طبيعة فكر أهالي هذه البقعة، وبالتالي يروح بالتعميم جيئة وذهاباً كنوع من الإسقاطات المراد بها الإشارة إلى صرخة يعاني/ونعاني منها جميعا في ضوء كل ما يحدث لنا من انكسارات.

الثالوث المفضل

الرواية ليست أيروتيكية بالكامل، وهذا ما ينصف الكاتب على صعيد شَرطية الكتابة، الحب فعل انتصار في معمعة كل هذا القحط واليباس الفكري والنفسي، كما أنه فعل انتحار غير محسوب النتائج، وغير محسوم على فرضية الأرض والمكان والبيئة التي تصعّب كل مهام العاشق ودوره العاطفي تجاه من يحب، ومن عَدَلَ عن أن يحب.. في إشارة إلى بثينة المتوفاة حين رفض الوقوف على قبرها للتحية، وفي التعامل مع مصداقية الشخصية بكامل طاقتها الذهنية، وكأن شاهين كان يطلب من أكرم ألا يرمي به في طوفان ازدواجية المعايير التي لم يعتد عليها، بل يكتفي بأن يكون ابن الظرف القائم ولا قدرة له على الرجوع الى ماضٍ يؤلمه أكثر مما يؤنسه.

السياسة، اللعبة التي لم تخف آثارها في نص قحطستان، ويبدو أن أكرم هنا كان أكثر دقة من قبل في كتابه الأول، حيث أن الطابع كما ذكرتُ في قراءتي الأولى كان تذكيرياً أكثر مما هو تأريخي، اما هنا فأجد أن ما أجلسَ الكاتب نفسه فيه كان يقع في منطقة خطرة جداً تتمركز بين التأريخ والتوثيق والتي أدعوها التقريرية، رواية تقريرية تجرّ أحداث المنطقة من ذيلها زمنياً وتعطي انطباعاً شكله هو الآخر بكل ما يحتويه من سمات بشرية، ومضمونه هو القاعدة النقدية التي ارتكز عليها الكاتب في كثير من المراجع والتواريخ والدوائر الزمكانية القائمة في تلك الحقبة.

بوصفه أداة تكتسب مشروعيتها من غياب قيم الحريات بشكل عام، كانت غاية الكاتب في التساؤلات التي طرحها عن موضوعة الدين هي خلق وظائف معرفية للقارئ يحاول فيها تفكيك البنية الفكرية السائدة وتقديم مفهوم جديد من منظور ثقافي وإنساني، باعتقادي أن خلط أوراق بيئة العمل بالتراكمات السياسية والدينية وما تخللها من صور أدب مكشوف/أيروتيكي كانت محاولة لنقد النقد القائم على مفهوم المحرمات/المقدسات، باعتبارها مادة دسمة لكل أصحاب المشاريع الثقافية والإعلامية، لذا كان من الأجدر أن اسميه الثالوث المفضل على اعتبارات عديدة منها الخروج عن الممارسة التقليدية لأي نمط عقلي سائد، ثانيها أنني اتفق مع الكاتب ضمن الجزئيات والتي قد تبدو بسيطة في النص لأُطر الإصلاح الفكري التي تحدّث بها على لسان شاهين/مشاعل/جورج، في الشق الثالث تحدث الكاتب عن فكرة التعايش لفظياً من خلال طرح الأسماء على اختلاف دياناتها واجتماعياً من خلال إلغاء مبدأ التفاوت الطبقي وإمكانية قيام حوار مشترك بين الجميع.. المعلم انطون/علوش/نازك/شاهين.

الفئات المتسلطة في المجتمع وحتى بعض القراء تُحرّم البحث في هذه السياقات، لذلك أرى ضرورة التمسك بهكذا نوع من السرديات، بل وقلب المفاهيم رأساً على عقب بطريقة دادائية من أجل إعادة تشكيلها.

الأمل شيء خطير

في بقعة جغرافية بائسة يحكمها قطب واحد – الغشجاني – حيث يمارس سطوته على الكثير من معدومي الإرادة، والقليل ممن اعتادوا على الأمل بالرغم من خطورة المحاولة، كان الحب/الطموح/النبل.. يترنح على حبل هزيل شاهق الارتفاع عن مستوى ما كان يسمى بالواقع، الهوية مسألة فلسفية قديمة، سيما لدى الكاتب كانت قضية شخصية ترتبط بمفاهيم التعريف/التنكير، تاريخياً نشأ قانون الهوية من الظلم الكلاسيكي، إذن فمن الطبيعي أن تكون مسألة البقاء/السفر/الهجرة/الخلاص.. هي فعل مقاومة/بقاء، يقول ليوناردو بادورا في رواية الرجل الذي يحب الكلاب :(في قاع الهاوية، حين تكون محاصراً من جميع الجوانب، تفعل الغرائز ما لا تفعله القناعات)، الاعتقال – الخطف – السرقة – البحر، نقيض القناعة ليس الطموح، بل أنه الجشع، في معادلة نفسية متناقضة و معقدة أسبابها شاهين/الحاج خنيفس الذي من المفترض ألا يضحي بأغلى ما لديه، بل من أجل ما لديه، ونتائجها مصير مشاعل، الناجي الوحيد – ميتافيزيقياً – من كل هذه اليباس، حين لم يبق غير الحب/المال/الشغف، ما تقدمه لعشيقها، كان رأسها المتخم بكل اشتهاءات الوجود هو آخر هدية/قربان تقدمه لشاهين، ذاك الفارس الذي ترجّل عن جواد الرغبة، وانسحق في آتون البلوى والفجيعة والمصائب من جديد، كي لا يبقى سوى القحط هو الأرض الأخيرة التي ستكون سجناً مفتوحاً لكل من يجرؤ على الحب والحياة.

 يبقى سؤال أخير.. كيف للمرء أن ينسى.. كيف للمرء أن يقايض كل بؤس العالم بوطن صغير لا يضطر فيه للصراخ والبكاء!!!

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني