كي لا ننسى
كثيرة هي الأسماء التي كان لها دور هام ومؤثر في تطور الحركة الوطنية السورية، ومقارعة الاحتلال الأجنبي، وكان لها أيضاً دور في تأكيد الوحدة الوطنية للشعب السوري، والتماسك الاجتماعي، والتعايش المشترك، مترفعين عن كل أنواع التعصب لما هو طائفي، أو ديني، أو قومي، مؤكدين أن الهوية الوطنية هي الأعلى، وهي التي تجمعهم ومن واجبنا – نحن الأبناء – أن نؤسس لمبادئهم تلك ونتمثلها قولاً وسلوكاً.
ومن باب الوفاء والمسؤولية الوطنية والإنسانية والأخلاقية أيضاً، أن نقدم هذه الشخصيات بسلوكها ومبادئها، وأن نعرّف هذا الجيل بها؛ كي يتمسك بالعروة الوثقى، ويعرف الخيط الأبيض من الخيط الأسود في ظل هذا الزمن الظالم المظلم الذي اختلطت به الأوراق، وتعقدت خيوطه، ومَنْ عقّدها يستفيد منها، ولا يعمل على حلها. وما أحوجنا اليوم أن نقتدي بهم، وهم منتشرون على الساحة السورية في كل مناطقها الجغرافية، وفي كل مكوناتها الاجتماعية والدينية والقومية.
من هذه الشخصيات التي تستحق منّا كل الاحترام، المجاهد عقلة القطامي، المكنّى “أبو موسى” من مواليد قرية “خربا” عام 1889، وسكّانها، ومن مسيحيي جبل العرب الأشم. عاش ونشأ فيه، وأصبح صورة حيّة لأخلاق أهله. كان مثلاً أعلى في الوطنية والدفاع عن الحرية والاستقلال، وهو من كبار رجالات الثورة السورية الكبرى، على علاقة وطيدة مع قائدها المغفور له ” سلطان باشا الأطرش”، وكانت تربطه به صداقة حميمة، وهو أحد أكبر مستشاريه.
ومَن كان مثل عقلة القطامي، يجب أن يحفظ في الذاكرة والقلب، وأن يعرفه القاصي والداني؛ لأنه رجل مخلص ووفي، عروبي أصيل، مغوار وقائد مقدام، لا يجب أن يطوي النسيان اسمه، وكذلك ليعلم كل جاهل، وكل متطرف، وكل حاقد أن الشعب السوري ما زال يتمثل مبادئ الثورة السورية الكبرى التي انطلقت من جبل العرب تحت شعار “الدين لله والوطن للجميع”؛ ولذلك انضم إليها، وجاهد تحت رايتها كل الوطنيين بمختلف أديانهم وانتماءاتهم.
وبالعودة لمذكرات سلطان الأطرش – وخصوصاً التي أملاها على الأستاذين صلاح مزهر ويوسف الدبيسي – سنجد اسم عقلة القطامي في كثير من الصفحات المشرقة من تاريخ الثورة السورية الكبرى، مثلاً: عقلة القطامي كان من ضمن الوفد الذي استضافه الأمير فيصل بمنزله بالمهاجرين بدمشق، كما ورد اسمه بين الأسماء التي أقسمت اليمين على الولاء للثورة، وتحرير الوطن السوري بأكمله من الاستعمار الفرنسي، وتوطيد دعائم استقلاله ووحدته، وكان من ضمن الوفد الذي ترأسه الأمير حمد الأطرش الذي ضم شخصيات مهمة من الجبل، هذا الوفد الذي ذهب قبل اندلاع الثورة لمقابلة المفوض السامي الفرنسي الجنرال ساراي في بيروت بقصد تبديل الحاكم كاربيه بحاكم وطني، وقد رفض الجنرال مقابلة هذا الوفد فعادوا حانقين غاضبين عازمين على الثورة وعلى التخلص من نير الاحتلال.
وعندما قامت الثورة عام 1925 لبى هذا الزعيم المجاهد الكبير النداء، دفعته إليه وطنيته ووفاؤه، وإخلاصه للأرض والعرض والشعب، وصداقته لسلطان باشا الأطرش، فخاض غمارها وشارك في معاركها معه جنباً إلى جنب ضد الاستعمار الفرنسي وجحافله، وتحمل شدائدها وأصبح عضواً في مجلس قيادة الثورة الذي تشكل من كل من: حمد عامر، فضل الله الهنيدي، محمد عز الدين، سليمان نصار، حسين مرشد رضوان، يوسف العيسمي، علي عبيد، قاسم أبو الخير، علي الملحم.
وقد تعرض لمضايقة الفرنسيين وملاحقتهم له بأشكال مختلفة، حيث قامت فرنسا باعتقاله ونفيه عدة مرات، وقامت بهدم داره في خربا، وصادرت أملاكه محاولة لإرهابه وكسر شوكته، ولكن كل ذلك لم يثنه عن عزمه… ومما يذكر أنه إبّان مقاومة الاحتلال الفرنسي لسوريا، ومن مواقفه المشرفة التي تعبر عن شجاعة وذكاء، ففي إحدى المعارك ألقى الفرنسيون القبض على المجاهد الكبير عقلة القطامي وفي المحكمة توجه إليه أحد الضباط الفرنسيين الكبار قائلاً: “أنا أفهم أن يقاتلنا هؤلاء المسلمون ولكن لماذا أنت ونحن مسيحيون مثلك؟”.
أجابه القطامي المجاهد البطل الوطني السوري: “نعم، ولكنني أحاربكم كعربي من بني غسان، إن الدماء التي تجري في عروقنا ليست فرنسية ولا بريطانية إنها عربية المنبع”.
وفي 5 نيسان 1924م كان أحد شخصيات الوفد الذي يمثل “الجبل” لمقابلة الجنرال “ساراي” للاحتجاج على سياسة كاريبيه وخروجها عن نص اتفاقية (أبو فخر – دي كيه) التي تقضي أن يكون حاكم “الجبل” من أبنائه، فقال الجنرال: (إنها حبر على ورق)، فأجابه الثائر “عقلة القطامي”: (إن البعثة الفرنسية في “دمشق” هي التي وضعتها فكيف تكون حبراً على ورق يا سيدي الرئيس!)، فاعتقله ونفاه إلى تدمر.
وقد رافق الزعيم الكبير سلطان باشا الأطرش عندما نزح إلى صحراء شرقي الأردن، وأقام في النبك ووادي السرحان، ومكث معه 12 عاماً، ولم يترك هذا الرجل الكبير عقلة بك القطامي، أخاه وصديقه ورفيق دربه سلطان باشا الأطرش، طيلة مدة هذا النضال الطويل والمرير؛ لأنه كان على قناعة بأنهم أخوة في الأرض وفي الوطن، وفي التاريخ. عاد معه إلى الجبل مع المجاهدين الأبطال الصامدين بعد أن وضعت الثورة أوزارها، ووقعت فرنسا معاهدة استقلال سوريا عام 1936، وبقيا على العهد والوعد حتى فرقهما الموت.
حين تحقق الجلاء ونالت سوريا استقلالها عام 1946، انتخب عضواً في المجلس النيابي السوري في الأعوام 43-47 وسكن دمشق، وعاد إلى قريته وأمضى بقية حياته فيها حتى وفاته عام 1953، رحم الله المجاهد المسيحي العربي الكبير وأسكنه فسيح جنانه. ولا يسعني هنا إلا أن أكتب ما قالته حفيدته السيدة هيام القطامي، وصرحت به وبكل احترام وثقه برأيها. وبقليل من التصرف ..”احتل أبو موسى عقلة القطامي منزلة عالية في قلوب عارفيه الكثيرين من رجال القضية العربية مقيمين كانوا أم مغتربين، وكان له مع أكثريتهم مراسلات ولقاءات ومواقف، نال فيها محبتهم وثقتهم، ونشأت بينه وبين بعضهم صداقات حميمة لإخلاصه وصراحته، وصواب رأيه وحسن تصرفه، وامتاز أسلوبه في مخاطبة من كان يراسلهم أو يقابلهم بسحر البيان ورقة اللفظ، وهو يصف أحوال الثوار المشردين في الصحراء، ويعدد ما كانوا يقاسون في مأساتهم المروعة من مصاعب وأهوال، ويعانون من ألوان الجوع وأشكال الحرمان وأنواع الإهمال، كان بذلك يحث الهمم ويستدر العواطف، وجاء في إحدى رسائله إلى الشاعر “القروي” بما معناه: (إن سلطان باشا الأطرش يا أخي بطل قومي لا يجود الزمان بمثله في سنين عديدة، تحمّل مع فرسان قلائل مسؤولية أعظم ثورة ضد الاستعمار، حياتهم في الصحراء مثل رائع في الصبر والشجاعة ونكران الذات، والقدرة على تحمل المحن والمشقات، وعيش قاس مرير لا يطيقه نسّاك ولا جبابرة متمردون”
أما أثناء عضويته في المجلس النيابي ومجلس إدارة المحافظة فقد كان مثال الإخلاص والنزاهة، يقضي وقته في الخدمة العامة يدافع عن الحق، وينصر المظلوم، ويساعد الفقير ولا يداري أحداً، ولا يخشى في الحق لومة لائم، فأحبه أبناء “جبل العرب” وكان محل ثقتهم، ومودع سرهم، في عام 1947م مُنحَ الوسام “البابوي”، خاض معارك الثورة ببسالة وتحمل التشريد والنفي بإباء، وزاده غضب الفرنسيين عليه ومصادرتهم أملاكه وأمواله صلابة وعقيدة وقوة إيمان بالمبادئ والمثل التي قامت الثورة من أجلها، وبوطنه وحقه في الحرية والوحدة والاستقلال، وقد اتخذ العروبة هوية بما فيها من قيم سامية، ومعان حضارية، وقومية وإنسانية”. نعم المجاهد البطل السوري عقلة القطامي أدى الرسالة ببطولة وشرف مخلفاً ذكراً خالداً مدى الأيام، وسيرة حميدة يُعطر شذاها الآفاق. نعم من يقرأ تاريخ الثورة السورية الكبرى ونضالها ضد أعداء الوطن؛ لابد أن يقرأ