fbpx

كلمة مواطن بسيط.. لنخرج من الصّندوق 2

0 217

قال الطغرائي (شاعر):

أعلّل النّفس بالآمال أرقبها…. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

فالحياة لا تتوقّف عند مكان بعينه، ولا عند فرصة كانت متاحة وضاعت من بين أيدينا، وما دام الإنسان على ظهر البسيطة، وهو يرقب الأفضل، ويطمح إليه، بما يجدّدُ حياته، ويثري تجاربه وخبراته، وبالتّالي لا يمكن أن نربط وجودنا في هذا الكون، بالمكان الضيّق الذي وجدنا أنفسنا فيه، مكان مولدنا مثلا، حتّى اعتقد الكثير، أنّ خروجهم منه يعدّ جُرما، أو تنازلا عنه بشكل نهائي، بينما تُبنى الطموحات وتشرق الآمال ويتّسع أفقها، بتمديد النّظرة لا تضييقها، وهو ما نجح في الوصول إليه الكثير من الناجحين، ومن أرغب في تلقيبهم بالنّاجين من الحصار – الصندوق – الذين لو ظلوا فيه أمداً أطول، لانتهى بهم الأمر إلى الجنون، والاختلال النّفسي، أو التمرّد السلبي، ضدّ مجتمعاتهم وأوطانهم، التي تمارس ضدّهم وضدّ أفكارهم، الاحتجاز، بحجج هي بمثابة الفخ، وقد تحدّثنا في المقال السّابق عن بعض هذه الحجج، التي يواجه بها المجتمع بمختلف مكوّناته، وأطيافه، كلّ راغب في الخروج من الصّندوق، طلباً للتّغيير الإيجابي، وهي الحتميات الضّاغطة، الفارضة منطقها على الكثير، حتّى أصبح الخروج من حيّزها، تعدياً وتجاوزاً وانتهاكاً.

الأمثلة متعدّدة، للذين استبدلوا بيئاتهم المؤذية والمثبّطة، أو التي أساءت فهمهم، لدرجة إحكام الغلق والتّضييق عليهم، بدل مساعدتهم على تحقيق التنوّع الذي يبحثون عنه في أماكنهم الأصليّة، والتغلّب على العقبات المحطّمة لكلّ شيء، لا سيما التفكير الابداعي الإيجابي، الذي من شأنه أن يؤرّخ إلى مرحلة، خارج الحدود الكلاسيكيّة المعتادة، -استبدلوها-بأخرى جديرة باحتوائهم، ويحضرني في هذا المقام العالم الجزائري، المعروف في الوسائط العلميّة بـ “العربي الأكثر اختراعاً” وهو البروفيسور “بلقاسم حبّة” الذي تجاوز حدود بيئته، واختار لنفسه الخروج من الصّندوق، الذي لو بقي داخله، ما كان ليحقّق ما حقّقه من براءات اختراع في مجاله العلمي، ليكون بهذا قد تخلّص من جمود أبدي، إلى حركة أبديّة، كان عمادها الأوّل الإيمان الكامل بالقدرات الشّخصيّة.

ما قام به البروفيسور “بلقاسم حبّة” الذي توصّل إلى حقيقة اضمحلال عطائه ببقائه جغرافياً في بيئته، وآثر تجاوز مرحلة التفكير خارج الصندوق إلى مرحلة الخروج منه، ينطبق على 1200 طبيب جزائري، الذين أثار خبر استعدادهم للهجرة نحو فرنسا، بعد نجاحهم في اختبار تقييم المعارف، حفيظة الكثير من الجزائريين أنفسهم – الذين صُدموا – بعد سماعهم الخبر، الذي انتشر بشكل واسع، وتمّ ربط حيثياته بمدى التمسّك بالوطن، وهذا في اعتقادي لا أساس له من العقلانيّة والموضوعيّة، بل إنّي أحسبُه تدخّلاً سافراً في خصوصيات الآخرين، وحياتهم، بكل ما تحمله من تطلّعات وطموحات، فقط لأنّهم، فكّروا بنمط مغاير عمّا دأب عليه غيرهم، وأرادوا تطوير مداركهم، وتعميق خبراتهم، وتحسين ظروف حياتهم، ضمن بيئة جديدة، توفّر لهم ما لم يجدوه في بيئتهم الأصليّة، وليس هذا بالغريب أو اللّامسموح، كونه يعكس قوّة تعلّقهم بطموحاتهم، وإصرارهم على تحقيقها، وأمثالهم كثير، في مجالات علميّة ورياضيّة أخرى، وما أكثرهم.

المشكلة هنا، أنّ من أرادوا لهم البقاء داخل الصّندوق، لم يتخلّصوا بعد من عقدة الحتميات المفروضة عليهم، حتّى أصابهم الوهن والخور، ليس في أجسادهم فقط، بل في عقولهم التي باتت متحجّرة لا تقوى على التّجديد، والأكثر من ذلك، أنّ بعضهم أصبح عدواً لكلّ جديد، حتّى يثبت للآخر أنّ ما هو عليه من تحجرّ، هو الصّحيح، وهذا يعكس حالة العجز الكلي، والرّضوخ والولاء المطلق لأفكار سلبيّة، رسّخها المجتمع داخل أفراده، حتى صارت جزءاً من شخصياتهم، وراحوا يدافعون عنها، ما أبقانا إلى حدّ السّاعة نراوح أمكنتنا ولا نبرحها، رغم المساعي المزعومة من أجل الالتحاق بالرّكب.

هناك بالطّبع الكثير من الأمثلة الايجابية، الذين حقّقوا فكرة الخروج من الصّندوق، ولم ينصتوا مطوّلا للأصوات التي قد تثنيهم على هدفهم، ولا تساعدهم على المضيّ قدما في سبيلهم، ليُثمر في نهاية المطاف، بواقع أفضل وأكثر إشراقا، بعيدا عن الزّيف والأمنيات التي سترافقهم في بيئاتهم، دون تحقيقها، ولو فرضا سلّمنا بهذا، فلن يكون الأمر بنفس النّجاح في بيئة مغايرة، وهذا بحدّ ذاته تفكير إبداعي، سمح لأصحابه بالخروج من الشّرنقة، حتّى ربّما دون إثارة ضجّة، بينما أثار نجاحهم الجديد وتميّزهم، ضجّة لا مثيل لها، وعادوا بالنّفع على مجتمعاتهم التي أبت فكرة خروجهم من الأساس.

إنّ الرّاغبين في تطوير حياتهم، لا ينتظرون الإذن من أحد، فهم يملكون استعدادا غير زائف، لتغيير كلّ شيء، ولو كان في ذلك خطر محدق على حياتهم، ولو اضطروا إلى الانطلاق من نقطة الصّفر، ويمكن هنا أن نشير لأولئك الذين اختاروا الهجرة خارج بلدانهم عبر البحر، بطريقة غير شرعيّة، بصرف النّظر عن مشروعيّة الفعل بحدّ ذاته أو العكس – فهذا ليس موضوعنا – ولكن بالنّظر إلى قدرة استجابتهم للنّداء الذي بداخلهم، وهو يحضّهم على الخروج من الصّندوق، الأخير الذي لم يجدوا داخله ضالّتهم، بالرّغم من أنّ الكثير يحسّون بالرّاحة التّامة والطمأنينة، وهذا عائد إلى الفروقات في طلب الحاجات.

أذكر جيداً صديقة، حالفها الحظ في الخروج من الصّندوق، لتواصل دراستها الأكاديميّة، وهو خروج طالما سعت إلى تحقيقه، وحقّقته فعلاً، قالت لي: “هنا حيث أواصل دراستي، وجدت الكثير من المساعدة، والكثير من الاحترام للباحثين” لقد قدّمت لي فكرة جدّ جليّة عن أهمّ الأسباب التي جعلت 1200 طبيب يعتنقون مبدأ الخروج من الصّندوق، حتّى ولو كانوا في قرارة أنفسهم مدركين أنّ لا وطن يسعهم بحقٍّ مثل وطنهم، ولكنهم استغلوا الفرص المتاحة، التي تمنحهم المزيد من الانفتاح والإبداع، وانطلقوا في صناعة مجدٍ لأنفسهم، متفوّقين بذلك على التّفكير المحدود، مبتعدين عن النمطية القاتلة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني