fbpx

قيصر ومفهوم العدالة

0 423

سعت الثورة السورية إلى تطبيق معايير العدل والقصاص على جميع ناهبي الثروات الوطنية وعلى جميع مجرمي الحرب الاستبدادين والطائفيين، لذا يصح اعتبار العدالة والمحاسبة قيمة مركزية رئيسية ثورية، وعليه فمن العبث المجادلة بعكس ذلك. كما يحضرني اليوم وفي خضم النقاش المستعر حول قانون قيصر، العديد من المواقف الثورية الناقدة بعض ممارسات قوى الثورة المسلحة، لاسيما في المرحلة التي سبقت 2014، عبر حملات إعلامية واحتجاجات ميدانية صارمة وكبيرة، رافضة أي ممارسة إجرامية باسم الثورة مقصودة كانت أم غير مقصودة كالقصف العشوائي الذي طاول في بعض الأحيان أماكن مدنية؛ على محدوديته مقارنة بإجرام النظام. وكذلك بما يخص مظاهر العنف اللفظي والجسدي تجاه أي مدني وبغض النظر عن موقفه السياسي.

طبعا لا يستوي الحديث عن مظاهر اليقظة الثورية الأخلاقية والحقوقية هذه دون الإشارة إلى معانيها، والمتمثلة في أخلاقية وعدالة المفهوم الثوري مقارنة بدونية وإجرامية ووحشية مفهوم العصابة الحاكمة. أي رفض جمهور الثورة أي ممارسة تنطوي على محاسبة أي شخص كان بجريرة شخص آخر؛ حتى لو كان على صلة قرابة به؛ لذا رفض جمهور الثورة (بجزئه الأكبر) ممارسات العقاب الجماعي تجاه أي من المكونات السورية، بل حتى تجاه حاضنة النظام الاجتماعية، كما رفض القصاص من الأطفال والنساء والمدنيين عموماً. في حين تغنى جمهور النظام بجميع جرائم الجيش الأسدي والمليشيات الطائفية والمراكز الأمنية مهما طغت، حتى بات عرض صور المجازر الأسدية على وسائل الإعلام السورية الرسمية مناسبة للفرح والتغني والاحتفال، دون أي حرمة للمقتولين؛ شهداء الإجرام الأسدي؛ من المدنيين أطفالاً ونساء ورجالاً. فضلاً عن التغني بجرائم البراميل العشوائية المتفجرة حتى لو طالت أسواقاً شعبية ومدارس ومشافي، وصولاً إلى التغني والاحتفال بتجويع مناطق بأكملها دون رحمة أو شفقة أو حتى تردد.

إذاً هنا تكمن الفروقات الجوهرية بين القيم الثورية وقيم النظام الأسدي المقيتة، ومن واجبنا الدفاع والمحافظة عليها بل وتعزيزها مستقبلاً عبر الدستور والقانون والممارسة اليومية الحالية والمستقبلية. وعليه أستنكر أصوات بعض أقطاب المعارضة القمعية التي تهجمت على ناقدي قانون قيصر الثوريين، وكأنه؛ أي القانون؛ كتاب منزل من وحي رباني مترفع عن أي نقد وأي خطيئة، ربما لكونه قانون أمريكي، أو ربما بحكم ضغوطات الحياة وفقدان الأمل بالمستقبل لدى هذه الشريحة. بكل الأحوال لا يجوز الاستكانة الثورية لذلك، بل علينا التمعن في الكثير من المفاهيم السيئة المتضمنة في القانون والتي تتعارض مع مبادئنا الثورية الأصيلة والأصلية.

فمثلا ينحكم القانون كلياً إلى مزاج الرئيس الأمريكي، ما يحوله إلى وسيلة ضغط شخصية لا تنحكم لمبادئ العدل والمحاسبة وسيادة القانون، إذ غيبت مسؤولية أي جهة قضائية موثوقة لدى السوريين عن الإشراف وتنفيذ أو تعليق أو إيقاف القانون، وهو دليل كاف عن تجاهل القانون لكامل قيم العدالة والمحاسبة لصالح قيم وأهداف غير معلنة لا تعني السوريين. فقد خبرنا تلاعب الرؤساء الأمريكيين كثيراً تجاه إجرام الأسد في مناسبات سابقة وصلت حد التواطؤ مع المجرم وداعميه، من الرئيس الأمريكي الديمقراطي السابق أوباما إلى نظيره الجمهوري الحالي ترامب، حين امتنع أوباما عن تقويض قدرات النظام الإجرامية بقبوله الاقتراح الروسي القاضي بنزع أسلحة الأسد الكيمائية. ونلمسه في ضربة ترامب الجوية المحدودة والهزلية، بعد تنسيقه مع الروس وإطلاعهم على مكانها وزمانها وحجمها قبل وقت يتيح للأسد وداعميه إخلاء الموقع المستهدف لتتحول الضربة العسكرية إلى مسرحية هزلية فاشلة. 

كما يحصر القانون سورية بنظام الأسد فقط، أي يستثني أي جهة اعتبارية أو رسمية أخرى، سواء أكانت جهة قانونية أم إنسانية أم سياسية، وهو ما يهمش قوى المعارضة والأهم يهمش قوى الثورة، ما يفرض الشكوك حول أهداف القانون الحقيقية، التي قد تنطوي على تقسيم سورية مستقبلاً أو دفعها نحو التخلي عن حقها الشرعي في أراضيها المحتلة، وربما في تكريس الطائفية والفئوية، فضلاً عن ضمان نهب خيرات سورية وثرواتها، ما يفقر سورية ويقوض طموحات السوريين النهضوية والتنموية والتقدمية. إذاً لا ينتصر القانون لأهداف السوريين وآمالهم، بقدر انطلاقه من بديهيات الوضع السوري من أجل فرض هيمنة أمريكية مباشرة تحت ذرائع إنسانية وحقوقية تخفي جوهر القانون الاستعماري والتدميري المكمل لما دمره الأسد ونظامه المجرم.

أما الشق الاقتصادي، فلا خلاف حول مسؤولية النظام المباشر عن جميع مظاهر الانهيار الاقتصادي، من انهيار العملة إلى شبه توقف العملية الإنتاجية الصناعية والزراعية وتوقف جميع أشكال الاستثمارات الأخرى. كما لا خلاف على تأثيرات قانون قيصر على المدنيين سواء لجهة ارتفاع أسعار المواد الأساسية في حال وجودها، أو عبر انهيارات جديدة في القطاعات الخدمية والطبية، ومن خلال استمرار انهيار العملة المحلية. إذ يجمع مؤيدو القانون وناقدوه الثوريون على تأثير القانون السلبي على المدنيين في مناطق النظام، بيد أن الخلاف حول الموقف من هذا التأثير، ففي حين يعتبر مؤيدو القانون هذا الجانب بمثابة “شر لابد منه” بغرض محاسبة النظام المجرم، وبأنه عامل إضافي سوف يساهم في تأجيج الحالة الثورية المعارضة للنظام داخل مناطق سيطرته. أي يتم تبرير هذه الأمور من باب المصلحة العامة أو النهائية بلا أي اكتراث بمبدأ العدالة والمحاسبة النزيهة والكاملة، ولا بمصير مئات وربما آلاف المدنيين. فبأي منطق حقوقي وقانوني نجيز لأنفسنا الترفع عن مصائب السوريين العالقين داخل مناطق النظام، ألا يكفيهم ظلم النظام وجبروته ونهبه خيراتهم وخيرات البلد، ألا يتشابه هذه المنطق والمفهوم مع بعض مؤيدي النظام ممن تغنوا بإيجابيات ومحاسن حصار الغوطة الشرقية وداريا ومئات المناطق السورية الثائرة، على اعتبارها “شر لا بد منه” للقضاء على المجموعات الإرهابية؛ وفق تعبير النظام وحاضنته؛ ومن أجل دفع المدنيين إلى مجابهة هذه التنظيمات وطردها.

وعليه اتفهم صمت بعضهم كونه تشريع أمريكي يصعب على السوريين التأثير به وعلى نصوصه كونه نتاج مؤسسات وأحزاب وقوى أمريكية، وبحكم الضعف والتشتت والتخبط السوري، لكن لا يمكن الصمت عمن يتستر خلف شعارات براقة من أجل قمع الأصوات السورية الحرة والوطنية التي تنقد القانون جزئياً أم كلياً من الداعين إلى تحديد موقف سوري ثوري ووطني من القانون ومن جميع أشكال التلاعب الخارجي بمصير سورية، موقف قد يمكننا من تجنيب المدنيين الكثير من المعاناة، كما قد يمكننا من ضمان أهداف القانون والتحكم بمساره الراهن والمستقبلي كي يخدم قضية الشعب السوري العادلة والشرعية.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني