fbpx

قصتان للكاتبة عفاف الرشيد

0 312

لن أحزن

ذاك الوجه أعرف تفاصيله، وتقاطع الخطوط التي رسمها الزمن عليه، حفظت أبعاده وأعماقه، رنة ضحكاته النكراء التي قلمت وهم الفرح الأول بالأمان المزيف، منذ طفولتي كان يبدو لي طيفاً هلامياً يرافق صحوي وغفوي، يحدثني بلغة البرق والرعد فترتعدُ أوصالي من خشونة صوته وقبح ملامحه، كان يتلون بجميع الألوان، أدفنه بصندوق النسيان لكنه ينهض من جديد، أراه طفلاً ثم شاباً، يصبح عجوزاً ثرثاراً يشتد نفوري منه أبتعد عنه أركض لكن خطواته تسبقني تعبت من الدروب ولم يكل عن مطاردتي، أتراني أهرب منه أم من نفسي؟!
قررتُ النسيان بطاقةٍ من طاقات الحياة الجميلة، شعرتُ أن الربيع تخلل مسامات روحي المرهقة، وغمرني بألوان قوس قزح، داهمتني غفوة تمنيتُ أن تطول، ولما فتحت عينيّ رأيته مُحدقاً، عيناه تبشران بالشر، تجاهلتُ وجوده، أطلقت النظر نحو الجبال الشامخة أمامي، لكنه يصرُ على زرع قبحه في كل مكان، و كأي موكب حزين مررّتُه من ذاكرتي، وما زالت عيناي تستنطقُ الجمال الذي يدثر هذا الكون الجميل..

ابتسامة جدي

زارني جدي بابتسامتهِ المعهودةِ وهو ينقرُ نافذتي التي تطلُّ على الحديقة، يُلوحُ لي بعلبةِ الحلوى التي أحُبها، قفزتُ وزهورُ حديقتي تتمايلُ فرحاً، وتلتف أغصانها المعرشة حول نافذتي، شوقي إليّه يسبقني، وصوتهُ يعبقُ بحنان كانسياب الجداول بين السهولِ.
أهلاً صغيرتي، قفزتُ نحوه لأضمه، وقبلاتي تغمرُ وجههُ الطيبُ، وهو يدفع بعلبةِ الحلوى نحوي، ما أشد حبي لك يا جدي.
امتزجت عواطفي الطفولية بقطع الحلوى اللذيذة، وركضت بين الزهور المتكاتفة في رحاب حديقتنا فرحةً وهو يلحقُ بي، سبقته وغيبت نفسي عنه بين الأشجار، شغبٌ طفوليٌّ أسرني، صوته كتراتيلٍ قدسية يتبعني، أن عودي صغيرتي، تعبَ جدي من ملاحقتي ولم أكفَ عن الركض، ولما غاب صوته لبعضِ الوقتِ أيقنت بأني ابتعدت كثيراً، عدتُ نحوه لأقَبّل يده وأشكره، لكن الصمت أرعبني، وانحنت زهور حديقتي كالنائحاتِ، أهو حزني أم هو حزن الطبيعة؟
باتت نافذتي الخضراء مسوّرة بالاصفرارِ، غابَ جدي بين متاهاتِ سرابيةِ، نهضتُ فزِعَةً على أصواتِ المتظاهرين، وهم يودّعون شهداء قضوا تحت التعذيبِ، أحدُهم ابن جارنا، شعرت بضيق في نفسي، غصةٌ في حنجرتي تكادُ أنّ تُطبق عليها، وجدتني أتجهُ نحو الموكبِ الثائرِ، أرددُ معهم الله أكبر، الله أكبر والأطفالُ يرشقون ذويّ القُبعاتِ السودِ بالحجارةِ، وما يزالون، هدمٌ ودمارٌ وعائلاتٌ تتشردُ في فُسحات الملاجئ، يبنون مستوطناتهم على أطلال أحلامنا، ويقطعون أشجارنا، الأشواك تنمو كهشيم الصيف، والشعارات تتردد دون صدى، لكن شجرةً واحدةً وارفة الظلالِ شامخة تنحني بأغصانها لتُظلّل قبر جدي تأبى أنّ تُقطع.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني