fbpx

قصتان للكاتبة “أمان السيد” من كتاب “أبعد من القيامة”

0 242

يشعر بالتّحليق عندما يترك في يد الحلاق الباكستاني خمسة دراهم تزيد عما يطلب.. يخرج من عنده بمظهر حيّ، ووجه منتعش..

في الطريق ينتحي ساحة معشبة بالماء.. يصطفيها؛ لأنه يستمتع حين يحسّ برطوبة الأرض، يحتاج أن يبتلّ حتى يستلذّ بمذاق التراب الحقيقي، يتّكئ تحت تلة عليها نُقشت عبارة تدعو المارّ إلى الابتسام، يترك سيارته مفتوحة الأبواب، ويجلس يتمعن في شتّى الجهات، وقد أرخى ساقيه، وأسند ظهره إلى كتفها..

هناك اتّساع شاسع في السماء، وفي الأرض، وفي الفضاء. يحاول رسم مربع عريض ليحضنها جميعها، فيرى أن راحتيه لا تستطيعان تحديد ما يريد. 

يدرك أنه قد التزم الصواب حين أشرع للسيارة منافذها.. أفلا تحتاجها أيضا لتتنفّس؟!

ينتبه إلى كِلاب بيض متعددة تحوم حولها تتابع سباحتها في المدى المتهاوي.. مؤكد أنها غير معنيّة بوجوده.. ينظر فيما يرتديه، فيراه مماثلاً لها في اللون، فيستغرب ما الذي ساقه إلى هنا، أليقعَ على هذا الاكتشاف، أم لينعم بهذا الانسجام؟!

يشعر بصداقتها، فلا يحرك نفسه لنهرها، فتأخذ راحتها في افتراش متعتها معه.. إنها تبتسم كذلك.. يا لهذا المكان الذي يدفع إلى الابتسام، ويا لي من أخرق.. كيف للكلاب أن تبتسم؟ حدسه ينبؤه أنها إناث، لذلك تبدي من المرح أكثر مما يبديه مع غيره من الذكران، يكثر من التحليل رغم أنه في يوم من المفترض أنّ عقله في إجازة.. يتحول إلى متفلسف يجري بعض القطرات في جوفه، ليحيي أفكاره..

في هذا اليوم من كل أسبوع، ودون أن يتقصد ينساق إلى المكان ذاته، يعيش مساحات من الاجتلاء، يعطي، ولا يفكر بما سيخسر..

حين انتهج هذا النسق كان بمحض إرادته، وهو فيه يتحلل إلا من رأس كالمرجل.. لن يقرر ما سيفعل، يكفيه أن يتطاير.. تدوّي في رأسه صرخة: أيعني ذلك أنك ميت في بقية أيامك؟! يحس أن لا جواب يشفي عطشه الآن، لذا يفكر في ابتداع حيلة يحتال بها على رأسه.. سيكون أصمّ، وسيترك للمجانين اليوم أن يفكروا، ولن يبخل بعقله لو أرادوه!

الكلاب البيض حوله تقف مدهوشة.. أين اختفت ابتسامتها، هل تظنه الشيطانَ قامعَ اللذات؟ 

حين يعود إلى منزله يشطب اليوم من مفكرته!..

وجهـان للقمر..

في كهوف غير مُعنونة المكان يبتدعون مغارات لهم.. يكنسون ساحات المدينة بعربات خيول مطهمة بتيجان فارسية، وشبق متعة تمارس أمام بوابات فاغرة الحياء.

ينهبون الأرض بصرامة، فتشهق.. يغدو البشر الذين كانوا منذ قليل بارزين جداً أشباحاً شاحبة جداً، لكن أحذيتهم لا يُفسّر كيف تبدو بكل هذا الوضوح.. قد يكون لأنها تودُّ أن تفاخر بإظهار رثاثتها!

رائحة فقر مخمور فيها منذ أن جَرت أولُ عربة خيل، ومنذ أن هبط أول سوط ليصفع الظهر، ليحدودب.. مدينة سكانها مُحدودبون، ولكنهم يُصرّون على التّفاخر، وهم يرتدون إعاقاتهم..

لم يسمع أن صراخا علا، ولا أن نفسًا يُطلق آهاته في طَلاقة، لكنّ كل من يدخل المدينة لا يرى ما على أهلها من إشارات، وكأنها في غمضة حلم تتحوّل إلى حلم، وكل الظهور تتواثب لتُداني قاماتِ السّرو!

هناك من يهمس أنّ المغارات تَغصّ بالسّراديب، وأنّ في السردايب هياكل لبشر يُعلّقون، لتَسكرَ فيهم السّياط..

وهناك من يهمس أنّ وجه القمر في منتصف الظلام يتحوّل إلى نصف ذئب، وإلى نصف شَاة، وأنّ الهياكل تَبتكر رقصات جنائزية، لتُرضي القمر، وأنّ بين الأشباح امرأة تَحشر جسدها بين الجموع، وتشارك بالرقص بشهية، لكن عينًا ما لا يمكنها أن تلمح قدميها العاجيتين المقطوعتين اللتين تمارسان الحب في مغارة أخرى من هذه المدينة!..

من كتاب “أبعد من القيامة”

الكتاب صدر مع مجلة الرافد عن دائرة الثقافة والإعلام في حكومة الشارقة عام 2014.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني