قراءة في رواية “معذبتي”
- الكاتب: بنسالم حميش
- الناشر: دار الشروق
- ط2 ورقية 20210
بنسالم حميش، مفكر وروائي مغربي له العديد من الروايات، قرأنا أغلبها، كتاباته تنغرس عميقاً في الواقع المغربي والعربي عموماً.
روايته هذه تتحدث بطريقة الخطف خلفاً، يعني البداية من النهاية، نتابع حكاية حمودة المغربي من مدينة وجدة، الذي خرج من اعتقال دام خمس سنوات، وهو الآن يسترد أنفاسه وأفكاره وحياته، يلتقي بمن يتبناه إنسانياً ويسكنه في مزرعته برعاية أم وابنتها، هاجس حمودة الوحيد أن يسجل تجربة اعتقاله، وهكذا كان.
يُعتقل حمودة من منزله بقسوة ويؤخذ إلى مكان لا يعلم عنه شيئاً، يعيش حياة أقرب للجحيم في المعتقل، أعطوه رقما بديلاً عن اسمه، هناك تنتهك إنسانية الإنسان وتهدر، ليس له اعتبار وليس له كرامة وممنوع أن يعترض على أي شيء، في المعتقل ينتهك نفسياً وجسدياً، لا أهمية لحياته أو موته، المهم ما يقدمه من معلومات تفيد الأمن والسلطة، من خلال ملاحقة المعارضين الموسومين دوماً بالإرهاب والتخريب.
حمودة سيقع تحت ظروف اعتقال حديثة، مستفيدة من خبرات تاريخ الاعتقال السياسي منذ القدم، فالمهم أن ينهار المعتقل ليقدم ما لديه، سواء عبر التعذيب الجسدي أو النفسي، منها أساليب جديدة معتمدة، هي الترغيب بمكتسبات داخل المعتقل بالطعام والشراب والفسح والدعارة، خاصة بمواصفات المعتقلات الحديثة.
او يكون أداة للأمن عبر التجنيد كمخبر، ليكون المعتقل مخبراً سواء داخل المعتقل لتقصي المعلومات عن المعتقلين غير الخاضعين، أو من خلال إخراجه من المعتقل ليعود لصفوف الجماعات السياسية، يخترقها ويمثل عيناً عليها، ينفذ خطط كل الأطراف، النظام والقوى الإقليمية والدولية التي أصبحت تعمل بشكل متكامل ومنظم ضد الجماعات التي صنفت على أنها إرهابية.
حمودة ابن الريف المغربي، فلاح ابن فلاح، توفي والده وهو صغير، أمه تزوجت من رجل آخر، الزوج قهر الوالدة والابن، استثمر أراضيهم وأملاكهم، كبر حمودة وعندما قرر أن يعمل بزراعة أرضه، هاجم الجفاف أرضه وأرض غيره، ولم تعد تشكل مصدر رزق له ولأمه.
غادر إلى ابن خاله في المدينة، لعله يجد فرصة عمل وعيش كريم، مات زوج أمه في ظروف غامضة، ثم جاء الاعتقال.
مكان الاعتقال غير معروف، لكنه صحراوي، المحقق قاض ومساعدته امرأة فيها كل مواصفات غياب الإنسانية، تتقن كل أساليب التعذيب، يتبادل القاضي معها الأدوار، فهو يستعمل اللين والتهديد والوعيد والوعود الكاذبة، يدفع باتجاه اعتراف المعتقل والانهيار باللين، وإذا لم يستجب لأسلوبه، يحول للمحققة الملقبة (الغولة)، حيث تسلط كل أنواع التعذيب على المعتقل؛ الضرب والشبح والتجويع والحرب النفسية، عبر سلسلة طويلة من الإجراءات والأساليب.
هناك أطباء ومستشفيات وممرضات، نساء وسكرتيرات، كلهم يقومون بأدوار متكاملة للدفع لانهيار المعتقل وتقديم المعلومات أو تجنيده. وإلا فله الموت تحت التعذيب أو التجويع أو العيش في ظروف الحياة السيئة هذه أو الانتحار.
حمودة مطلوب منه أن يعترف بقتل زوج أمه، وأن يقدم معلومات عن قريبه المتهم بعلاقته مع المجموعات الإرهابية، وإن ساعد في ذلك، يعفى من جرم قتل زوج أمه الذي لم يقتله أصلاً. وهو ينكر ذلك، يتحمل ويتكل على الله. سيأتيه بعض المعتقلين المخبرين من أجل التأثير عليه للتسليم وتقديم ما لديه من معلومات. لكن ذلك لا يفلح رغم تكرار المحاولة، في كل مرة طريقة جديدة، المعتقل يحوي بعض الموظفين الرافضين لما يحصل، الذين يساعدون المعتقلين على التحمل أو منعهم من الانهيار أو الاستسلام، مثل السكرتيرة نعيمة التي ساعدت حمودة على الصمود والصبر ودفعته لاستمرار إنكاره، وأن يتصرف كأبله وأحمق وأن يدعي المرض.
سيعيش في هذه الأجواء خمس سنوات، سيقتنع معتقلوه أخيراً بأنه لا يصلح، وأنه مصاب بمرض السل والحل التخلص منه.
يطلقون سراحه بعد تهديده بإعدامه إن تحدث عما حصل معه، يُترك في الصحراء، وسرعان ما يصل إلى بلدته، ويجد من يتبناه في القرية.
هناك يعيد تأهيل نفسه مع الحياة مجدداً، لم يكن لديه إلا هدف واحد وهو تسجيل ما حصل معه، ليكون الناس على اطلاع على ما تفعله السلطات الحاكمة، ووراءها النظام العالمي، أساليبهم الوحشية مع المعتقلين وهدر إنسانيتهم دون أي مانع أو رادع.
في القرية يكتب شهادته، يتعرف على العائلة أكثر، ويحب صبية من صباياها، يطلب يدها من أهلها، يتزوج ويبدأ حياة جديدة، محاولاً تجاوز مأساة حياته التي عاشها في المعتقل إن كان ذلك ممكناً.
هنا تنتهي الرواية، وفي قراءتها نقول:
إن المكتبة العربية وعبر عقود، امتلأت بروايات الاعتقال السياسي، والشهادات الخاصة المعيشة داخل المعتقلات.
يبدوا أن هذه التجارب لا تنضب، طالما أن هناك حكام مستبدون فاسدون قمعيون يضطهدون شعوبهم.
يريدونهم عبيداً في الدولة التي حولت إلى مزارع الحكام الخاصة، ومن لم يقبل ويرفض، يكون مصيره الاعتقال والسجن والقتل والنفي والتشريد.
الجديد هو الحلف الدولي مع هذه الأنظمة، في ملاحقة السياسيين طالبي الحرية والعدل والديمقراطية، وناشطي حقوق الإنسان، والادعاء بأنهم من الإرهابيين.
الجديد في الاعتقال هو استعمال الأساليب العلمية المدروسة لدفع الإنسان إلى الانهيار نفسياً، وتجنيده ليكون عدواً لنفسه وشعبه وأهله، ويكون مخبراً باع ضميره ووطنه وانتمائه.
مازالت المعركة مستمرة بين الشعوب وناشطيها ومثقفيها وعقولها المبدعة من جهة وبين الأنظمة الاستبدادية القمعية المستغلة من جهة أخرى.
هذه الأنظمة التابعة للقوى الدولية ومصالحها، معركة يطالب بها الشعب بحقه بالحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والحياة الأفضل.
ومازال الشعب يدفع الثمن غالياً، وما الربيع العربي إلا خطوة على الطريق، ومواجهته وإسقاطه إقليمياً ودولياً، رد من كل الأعداء على ربيعنا العربي.. لكنا لن نستسلم، ومازالت المعركة مستمرة.