fbpx

قراءة في رواية “لا ماء يرويها”

0 334
  • الكاتبة: نجاة عبد الصمد
  • الناشر: منشورات ضفاف – منشورات الاختلاف
  • ط1، ورقية، 2018م.

نجاة عبد الصمد؛ روائية سورية متميزة جداً، لها العديد من الكتابات، هذه أول رواية أقرؤها لها.

لا ماء يرويها؛ رواية تتغلغل عميقاً في نفس وعقل ووجدان القارئ، نتفاجأ بمقدار الصدق في البوح، كسر طوق المخفي، كل الأحوال النفسية والاجتماعية والاقتصادية والعقائدية والسياسية، نسبياً، تحت مجهر المكاشفة، خاصة وأننا أمام رواية تتكلم عن سورية مملكة الصمت والقهر، عن السويداء مدينة الطائفة الدرزية، بكل ما يحيط بها من كتمان وبحر أسرار وعزلة اختيارية، عن المرأة في سورية والسويداء، حيث المرأة الجنس المظلوم، مركز القهر والشرف والمشاعر المكبوته، المرأة صانعة ذاتها وما حولها والعالم. في الرواية طبقات متداخلة في السرد والبوح وكشف الحال، المرأة بكل أطوارها في ريف السويداء ومدينتها، مجتمع السويداء فلاحية وأطيافها كلها، الغني والفقير، المتدين الملتزم وغير الملتزم، الكل محكوم بسلسلة روابط مجتمعية ضمن الطائفة، لا يمكن الاستهتار بها، الرجل يطرد من بلده وأهله إن خرج عن المتوافق عليه، المرأة الناشز مصيرها الذبح. معلومات جديدة عن الطائفة الدرزية وخصوصيتها، ذات طابع سري تطرح دون تردد مع نزعة نقدية، الأهم أنها من داخل الطائفة، ومن فتاة فيها. الطائفة المنغلقة على نفسها، التزاوج داخل الطائفة فقط، المرأة المتزوجة خارج الطائفة تذبح ولو بعد حين، الرجل يطرد من الطائفة. الرواية تسوح مع أهل السويداء في المكان من السويداء وريفها الى آخر الدنيا حيث يصل أي درزي في قارات العالم كلها. في الزمان تاريخ المرء حمل على ظهره وفي نفسه، تنبشه الرواية لكل شخوصها، لا نكرة في الرواية، الكل معرّف، وبعضهم مكشوف ومفضوح. للشأن العام حضور متوار أحياناً وأحياناً بصراحة ناصعة، الشباب ونشاطهم السياسي ضد النظام، اعتقال بعضهم، وهروب بعضهم واختفاء بعضهم تحت الأرض.

سلطان باشا الأطرش رمز درزي وطني سوري وعربي، قاد الثورة السورية، صديق لأبي عمار ونصير للثورة الفلسطينية.

تبدأ الرواية على لسان الساردة بطلة الرواية المركزية حياة ابنة السويداء، تعي حياتها في سكنهم البعيد نسبيا على أطراف مدينة السويداء، تحدثنا عن طفولتها وكونها من عائلة اغلبها نساء، لها أخ أكبر ممدوح، وأخ أصغر، والدها نموذج للرجل ابن الريف الذي يقضي عمره بالعمل ليبني بيتاً ويعيّش عائلة بالستر. هناك مسافة دوماً بين الزوج وزوجته، هو السيد وهي التابع الملبي لرغبات الزوج كلها، وإلا لكان مصيرها الضرب أو الطلاق، الذي يعتبر عار اجتماعي، وسهل جداً أن يفعله الرجل. تحتال المرأة على حياتها، لتلبي بعض طلباتها الصغيرة المتواضعة. المرأة أيضاً هي سيد قادر جبار على بناتها، تنفذ عليهم كل مكبوتاتها، وميراث حكمة إدارة الحياة في ظل الرجال الحاكمين الباطشين. حياة وأخواتها الكثيرات والأب المتسلط والأم الحاكمة المطلقة بشأنهم، حياة لا تستسلم لقدرها، منذ مراهقتها تتحرك أفكارها بحثاً عن حبيب، كما كل رفيقاتها، ستراه مجسداً بناصر الشاب الذي حضر والده من لبنان إلى السويداء وبنى بيتاً مجاوراً لبيتهم، الأمهات لم ينسجمن مع بعضهن، مع ذلك سينشأ بين ناصر وحياة حب يغذى بلقاءات سرية في أماكن مختلفة مصحوب ببعض الضم واللمس والبوح العميق عن حب يحمونه مدى الحياة. ناصر التحق بالعمل الفدائي، حاول أن يخطب حياة، أمه رفضت، قرر أن يصبر على أمه إلى أن ترضى، وعاد للعمل الفدائي، حيث تدرج به، وأصبح مقرباً من قادته، إلى أصبح من الحرس الشخصي لأبي عمار الزعيم الفلسطيني. حياة لم تيئس من انتظار ناصر إلى أن يعود ويتزوجا، لكن الحال سيتغير، سيحضر خليل قريب والد حياة بعد غربة طويلة، كان قد سافر فيها إلى أفريقيا، عمل كثيراً، وتحمل الغربة، عاشر الأفارقة، لم يترك موبقة إلا وفعلها، عاد ممتلئاً بالمال، قرر أن يذهب الى السويداء مدينته وأصله ويبدأ بها عمله ومشاريعه. كانت خطبته لحياة من والدها أول عمل قام به، يرتبط بجذوره ويصنع عائلة، والد ووالدة حياة يجدون به فرصة، لتزويج بنت من بنات كثيرات يرونهم عبئاً عندهم إن لم يتزوجن، وخليل ثري، حصل الزواج، خليل يكبر حياة بعشرين عاماً، من عمر والدها، لم تستطع الاعتراض، سألت أم ناصر عنه، أخبرتها الأم سليلة كهن النساء أنه تزوج وسافر إلى ألمانيا، لقتل أي أمل في نفسها. لم يغب ناصر عن ذهن حياة، بقيت تحلم به وبعودته لها. عاشت حياة مليئة بالقسوة والمعاملة السيئة من خليل لها. كان يراها مجرد أنثى لتلبية رغباته الجنسية ولتلد له الأولاد خاصة الذكور. كان يذلها كل الوقت، حاول مجامعتها من الخلف، نفرت إلى أهلها، ضربها والدها وردها لزوجها دون سماع أي كلمة منها. حياة ككل النساء مضطهدات في مجتمع الذكور. والد حياة يرى في أولاده الذكور فخره ومستقبله وعزوته، خاصة ابنه الأكبر ممدوح الذي بعثه للدراسة ليصبح مهندساً يتباهى به حيث يعمل في النافعة، لكن ممدوح يفشل دراسياً ويغادر مع فتاة فرنسية إلى فرنسا دون أي علم أو خبر، يعلم الوالد بذلك ثم يموت إثر الصدمة، لقد خسر رهان عمره. هكذا هم الآباء والإخوة والأزواج والأبناء يرون أنفسهم الأهم والأولى. أما المرأة الناجحة في حياتها من تستطيع أن تتكيف مع ظرفها وتصنع لها إمبراطورية قهر على من في دائرتها؛ بناتها. المرأة في هذه الأجواء صانعة كثير من الأقدار، لكن من خلف ستار رجل أب أو زوج أو أخ أو ابن. حياة تلد الذكور على عكس والدتها، ينتفخ زوجها خليل بسلالة الذكور، ابنها البكر سلطان يتشرب عقلية أبيه ويتحول لأداة اضطهاد لأمه. خليل يتوسع بأعماله التجارية الكبيرة، يشتري حفارة وأرضاً واسعة ويحفر آباراً لإرواء الأرض ويبيع الماء لمن في جواره. السويداء وجوارها، أرض زراعية تعتمد على المطر، كثير من سنواتها تأتي دون مطر وتمحل الأرض ويعيش الناس حياة ضنكاً، الحفارات حلت المشكلة جزئياً، وصلت لأعماق المئات من الأمتار وصلت إلى مياه لا تنضب، وسقت أرضاً وبشراً عطاشاً منذ مئات السنين. خليل مصاب بلوثة حب المال وتراكمه، مصاب بمرض الشح والبخل على عائلته، يأكل ما يشاء ويترك لعائلته الفتات. تضطر حياة لاستدانة الطحين واللحم من البائع، قد تسمح لبعض الباعة ببعض التنازل عن مماحكتها الجسدية لعلها تلبي حاجة لطعام أو لباس لها أو لأولادها. تقف أمام الجامع تشحذ لابسة لثامها مخفية وجهها. ما أسوأ أن يمتلك زوجها الملايين وهي تعيش حرمان كل شيء بدءاً من اللقمة. عاشت حياة هذه العيشة، انتظرت عشرين عاماً حتى جاء ناصر ليشيع جدته التي وصله خبر وفاتها، بعدما كان قد استقر في رومانيا يعمل في مطعم فتحه له أبو عمار، أبو عمار الذي حورب في لبنان حتى غادر إلى تونس والمنافي، ثم عاد بعد كامب ديفيد ليخوض مفاوضات الحكم الذاتي مع (الإسرائيليين). جاء ناصر ليدفن جدته ويجد حياة تنتظره وليلتقي بها سراً، لكن مراقبتها لم تغب، واجهها زوجها وولدها سلطان وحاكمها على الخيانة والنشوز، يطلقها خليل ويرميها في الشارع. بعد عمر أكلها خليل لحماً ورماها عظماً. لكنها غير نادمة، ناصر وعدها أن يأخذها معه إلى رومانيا، ويبدأا حياة جميلة تأخرت عشرين عاماً. عاشت معه وقتاً قليلاً لكنه عوضها عن عمر من المرار والانتظار. وعندما أزفت ساعة الرحيل لم تستطع المغادرة والابتعاد عن بلدها وأهلها وأطفالها. رغم أنها لم تنل منهم غير الضيم والذل والقسوة والحياة السيئة. تركته يذهب على أن يعدها ألا يتركها أبداً ولو عبر الأحلام، لتنعش حبا يأبى أن يموت.

هنا تنتهي الرواية، وفي تحليلها نقول: مهما كتبت عن الرواية لا أفيها حقها، اللغة المتمكنة الملبية للحالة المعيشة بكل دقة ونجاح، الخوض عميقاً في المرأة بصفتها أنثى ومراهقة وحبيبة وأم وأخت وابنة واقع قهري قاس، كل ذلك في خصوصية المجتمع الدرزي ريفاً ومدينة. الإطلالة على الجو المجتمعي العام، التفاوت بين الرجال والنساء، إمبراطورية الرجل التي لا راد لقضائه، إمبراطورية المرأة حيث تستطيع إلى ذلك سبيلاً. الإطلالة على المناخ العام السياسي لسورية بشكل عابر لكن موضح، العمل السياسي المعارض والمضطهد، حضور السلطة المطلق في حياة الناس وفي كل شيء. إطلالة على الحالة الدرزية بخصوصيتها الدينية، ليست دراسة علمية لكن لتكتمل صورة الواقع الاجتماعي بأمانة، إيضاح بعض ما لم يكن واضحاً، أو منكراً، أو ملتبساً، أو متروكاً للتخمين. المرأة كاملة العقل والدين، نعم لكنها ضحية العرف إلى درجة التطليق بكلمة، وحرمان الميراث، ودونيتها في عالم الرجال، رغم التباهي بها أختاً للرجال. الغوص عميقاً في امتداد الدروز في المكان داخل سورية وخارجها إلى البلاد العربية والعالم، وعودتهم كلهم أخيراً ليبنوا مجدهم على شكل قصور، وليجدوا قبوراً لهم في بلداتهم التي هربوا منا يوماً وعادوا لها حنيناً.

الرواية ممتلئة قراءتها ممتعة، تترك في النفس طعم الهناءة والامتلاء. نعتز أن سورية ولادة لروائيين وروائيات على نموذج نجاة عبد الصمد.

شكراً نجاة ابنة بلادنا الرائعة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني