قراءة في رواية “الشيباني”
- الكاتب: أحمد فال ولد الدين
- الناشر: دار التنوير
- ط1، ورقية 2019م
أحمد فال ولد الدين روائي موريتاني متميز جداً، هذه الرواية الثانية التي أقرؤها له، بعد رواية الحدقي التي كتبت عنها أيضاً.
الشيباني رواية تعتمد الكتابة بأسلوب السرد على لسان الراوي، كما تعتمد الرواية التقاط الحدث في لحظة زمنية في الدوحة عاصمة دولة قطر حيث يعمل الشيباني الموريتاني في مكتبة في سوق “واقف” في وسط المدينة، ثم يتابع الراوي سرد الأحداث قبل ذلك في موريتانيا وبعده في الدوحة وما حصل بعد ذلك حتى نهاية الرواية، لنقل إن هناك خلط زمني في الرواية يخدم السرد ولا يشتته ويجعله متكاملاً لتصبح صورة الحدث الروائي منجزة في الرواية بوصولنا إلى آخر كلمة فيها.
تبدأ الرواية من سرد حياة الشيباني الذي يدير مكتبة في سوق واقف في الدوحة، المكتبة التي تعج بالكتب الكثيرة، المنتقاة بعناية. يتعامل الشيباني مع الكتب بحنان خاص، يوجد حبل نفسي مربوط بينه وبينهم. يعمل معه في خدمته ومساعد في المكتبة شاب موريتاني آخر. يعيش الشيباني في المكتبة كأنه في صومعته، يقرأ كل الوقت، أصبح أشبه بسائح في عوالم الفكر والتاريخ والفلسفة والدين والتصوف، يعيش عوالم نفسية مختلطة بين المعيش الواقعي والمتخيل النفسي الذي يجعله أقرب إلى المتصوفة الذين يحصلون على كرامات يسكتون عنها ويتمتعون من خلالها بوصل مع الذات الإلهية، أودى التصريح بها لمصرع بعضهم كالحلاج.
يعاني الشيباني من قلة القراء وندرتهم. كما أنه يراقب اهتمام الناس وخاصة الشباب بالطعام واللباس والكماليات وعزوفهم عن الثقافة والمعرفة، يستاء منهم ويتحسر عليهم وما ينقصهم من وعي وفهم ولذة الحصول على المعرفة. يراقب الشيباني التغيرات الكبيرة التي حصلت في الدوحة بعد الطفرة النفطية، في مستوى العيش والعمران والثراء المتساكن مع الفقر المدقع، المتعايش كله في حيز ضيق. يرصد حياة العمالة الدنيا الآسيوية نساء ورجال، التي تعمل كل شيء في هذا البنيان والعمران العملاق، العمالة تفتقد أبسط شروط الحياة. كان ينتقد هذا الظلم ويراه هو السائد هناك وفي كل مكان، وأنه هو الأصل المعيش للأسف، العدالة منعدمة تقريباً. يتواصل مع بعض الزبائن بشكل شبه دوري، يرصد نموذجين من الزبائن أحدهما خليجي، متزوج من أربعة، مفرط في البحث عن الملذات، يحمل فكراً سلفياً وهابياً، علاقته مع الإسلام نصية يختلف مع أي طرح تنويري ديني، يرفض مواجهة الحاكم، ضد التجديد الديني، يعيش حياته على هواه ويجد فتوى لكل أعماله، وإن خرج على جوهر الإسلام. كانت نهايته فاجعية، لقد تبين بعد مضي وقت طويل على علاقته مع الشيباني أنه كان يستفيد من نظام الكفالة الذي يمنع وجود أي أجنبي في دول الخليج دون كفيل من أهل البلاد يتحكم بالمكفول في كل شؤون حياته، خاصة العمالة الدنيا من عمال البناء والنظافة والممرضات وعاملات المنزل، كان يستحضر هؤلاء الفتيات الآسيويات من الفلبين وغيرها، ويحولهم لشبه سجن ويعقد قرانه عليهم ويستعبدهم جنسياً. حصل ذلك بشكل دوري ودائم، لكن بعضهن أخيرا تآمرن عليه وقتلنه في بيته، وهربن إلى سفارتهن وانتهى هذا النموذج بشكل مأساوي.
أما النموذج الآخر فهو طبيب سوداني مثقف وناضج تعرف عليه بصدفة غريبة حيث طلب الشيباني من عامله أن يعرض كتبه منادياً على الناس بأنه يبيع الباندورا، كتعبير عن تأزمه من اهتمام الناس بالطعام وابتعادهم عن الثقافة. حصلت تفاعلات فكرية بين الشيباني والطبيب ناقشوا فيها أغلب الموضوعات التي يتابعها المثقفون وأصحاب المعارف. دين وفلسفة وفكر وكانوا يقتربون من السياسة بحذر، لأن السياسة تؤدي إلى المهالك. حدثه الطبيب السوداني عن القمع في السودان أيام الحكم السابق على الثورة الأخيرة. وأنه فر من السودان إلى أثيوبيا في مطلع شبابه، هرباً من احتمال اعتقاله بسبب موقفه السياسي من النظام المستبد الظالم. وهناك أكمل علمه ودرس الطب وتزوج واستقر حتى جاءته فرصة العمل في الدوحة، وجاء للعمل فيها.
للشيباني حكاية طويلة كان وجوده في الدوحة يعمل في هذه المكتبة أحد مراحلها. فهو ابن قرية الكداية الموريتانية على حافة الصحراء، يعرف أن والده كان قد تزوج والدته واستمر معها حوالي الشهرين وغادر باحثاً عن عمل في أفريقيا حيث كان يتوجه الموريتانيين وقتها. ذهب ولم يعد، أنجبته أمه ولم يكد يعي وجودها حتى توفيت هي أيضاً، لم يبقى له من أهله إلا جدته والدة أمه الضريرة، كانت تهتم وتعتني به كل الوقت. القرية مغرقة بخليط من عادات وتقاليد تأسر كل الناس، العقلية الخرافية وإحالة كل ما يعيشوا لبعض البشر كأسباب تقف وراء ما يعيشون. المجنون الذي يعتبرونه متلبساً لجني، والمرأة المعتوهة يعتبرونها وراء الحسد الذي أدى بالكثيرين للهلاك أو المرض، البنية المجتمعية المعتدة بالنسب إلى أجداد بعيدين، الطرق الصوفية المهيمنة المتغلغلة في حياة الناس، ممارسة واعتقاداً، الحضرة وضرب الدفوف والانجذاب والاعتقاد العميق بقدرات خارقة للأسياد الشيوخ، عالم متكامل موغل في معتقداته التي يعتبرها مطلقة، تداخل بين عالم الجن والسحر وحياة البشر اليومية، يدعمه توافق مجتمعي قائم على الكذب العام المتفق عليه. تعلم الشيباني عند الشيخ في البلدة مبادئ أولية في علوم اللغة العربية والعلوم الشرعية، لكنها لا تكفي لتلبي طموح الجدة أن تجعل حفيدها متعلما يصنع لنفسه حياة أفضل. لذلك انتقلت به إلى مدينة نواكشوط وهناك تابع علمه، وتبين نبوغه وقوة حافظته ودخل الجامعة متابعاً دراسة اللغة العربية، كان نهماً للقراءة والاطلاع والمتابعة، برز بين زملائه وزميلاته كأفضل طالب في الجامعة، وصل إلى مرحلة مناقشة الدكاترة ومساجلتهم. كانت معه في الجامعة سلمى طالبة متميزة بجمالها وتفوقها، والدها جنرال في الجيش، ويدعونها ابنة الجنرال فيما بينهم. اهتمت بالشيباني وأصبح بينهما علاقة حب استحوذت على نفسه ونفسها. التقى الشيباني ايضا بعبد الرحمن من أبناء قريته التي تركها وجدته، حيث استرجع معه أحوال القرية، وأصبح صديقه وكان يدرس مثله قسم اللغة العربية. كان اغلب الطلاب يحسدون الشيباني على تفوقه وعلى استحواذه على سلمى الفتاة الأجمل في الجامعة. كان الشيباني الفتى المفوه والافضل، لم يرق ذلك لعبد الرحمن، أضمر له الشر، وفي احدى المرات حيث كان يتحدث الشيباني في جمع من الطلبة عن أحد الشعراء ونسبه، تدخل عبد الرحمن وقال قبل أن تحدثنا عن نسب ذلك الشاعر الذي مات قبل ألف عام، أجبنا ابن من أنت؟!. كان ذلك صاعقاً للشيباني أطفأت حماسه وجعلته يفكر هل هناك ما لا يعرفه عن نفسه؟ أن الاتهام له بأصله يعني إعدام وجوده الإنساني الذي يعتمد النسب أساس الوجود الشخصي لكل إنسان. تأزم الشيباني نفسياً واعتزل الجامعة، ورجع إلى جدته وسألها مجدداً عن والده وأمه وأصله. وأكدت له مجدداً عن ذات الحكاية التي يعرفها، لكن أضافت لها معلومة أن أمه أنجبته بعد زواجها بسنتين، وهو يعلم أن ذلك مشكوك به طبياً، لكن هناك آراء فقهية معتمدة منذ سنوات طويلة تقول إن الحمل قد يمتد إلى خمس سنوات كأقصى حد. وإن أي إنجاب لأي متزوجة وغاب زوجها خلال هذه السنوات يعتبر ابناً لوالده الغائب أو المتوفى ويوثق كذلك اجتماعياً وشرعياً بين الناس. ارتاح نسبياً الشيباني لهذه المعلومات، لكنه لم يكتف بذلك، فلا بد له من ورقة إثبات نسب من شيخ معتبر، لذلك انتقل إلى حيث يوجد شيخ ثمانيني بمثابة أب روحي وعلمي لمجموعة كبيرة من الطلبة الذين يدرسون عنده جميع أنواع العلوم الشرعية واللغوية، أصبح من طلابه وتابع عنده فترة من الزمن وفي وقت مناسب شرح له حكايته، أقر له الشيخ بنسبه إلى والده وأعطاه ورقة النسب المطلوبة، وأعاد اعتباره لنفسه أمام نفسه وأمام الطلبة وخاصة أمام سلمى حبيبته التي تركها منذ واجهه صديقه عبد الرحمن. وقبل الذهاب إلى الجامعة ولقائه بسلمى جاءه رسالة منها غيرت مجرى حياته، فقد علم والد سلمى وأخوها بعلاقة ابنته سلمى بالشيباني وذلك يمثل عاراً عائلياً لا يقبلوه، ضغطوا عليها لتكتب رسالة له، فحواها أنها كانت تعرف أصله الوضيع ومهتمة بتفوقه فقط ولم تكن تحبه أبداً. كان وقع الرسالة عليه وقع الصاعقة. قرر أن يترك الجامعة وموريتانيا كلها ويغادر إلى أفريقيا حيث غير اسمه وعمل هناك في الرعي ناسياً نفسه وما كان. لكن جاسم صديق خليجي كان قد تعرف عليه أيام الدراسة على يد الشيخ الذي أعطاه ورقة النسب، كان الشيباني قد ساعد جاسم في خطبة إحدى الفتيات والزواج منها، وكيف دافع عنه أمام وشاية كاذبة عند الشرطة ممن كان يحب الفتاة وخسرها. لم ينس جاسم معروف صديقه الشيباني، وعندما علم بما حصل معه، ذهب يبحث عنه في أفريقيا ووجده وأقنعه بالذهاب معه إلى الدوحة والعمل معه في مكتبة فتحها له ويكون كفيله، في عمل تجاري يستفيد منه الاثنان، وهكذا حصل. لكن الشيباني لم ينسى حبيبته سلمى، توحد مع عالم الكتب أكثر صارت حياته خليطاً بين الوجد الصوفي المتخيل وبين الواقعي المعيش، كان يسكن في غرفة صغيرة فوق المكتبة ويعيش حياة بسيطة متواضعة. يعيش على حب يتمنى أن ينساه، ولكنه يكتشف أنه يتغلغل مع الايام في أعماق روحه أكثر. حاول الانتحار لينتهي من هذا العذاب، أنقذه صديقه الطبيب السوداني وعاد إلى مكتبته واصدقائه والقراءة والتعمق الصوفي. وهكذا إلى أن جاءه مرسال من طرف سلمى تخبره أنها كتبت تلك الرسالة التي طعنته في الصميم مجبورة، وأنها ما زالت وفية لحبها له، وأن والدها وأخاها ما زالا يحاصرونها كل الوقت. عاد الأمل له وأن الدنيا ستبتسم له مجدداً. استمرت سلمى تبعث عبر المراسيل تباعاً أخبارها له. لم يردعه أن عصبة من شباب موريتاني أرسلهم الجنرال والد سلمى ضربوه وأهانوه وأنذروه أن يبتعد عن طريق سلمى. لكنه لم ييئس إلى أن جاءته رسالة من طرفها تخبره أن والدها وأخاها قد قبلا بحبهما وأنهما طلبا منها أن يحضر إلى نواكشوط ليتزوجا وينعما بحياتهما. كان هذا الخبر أسعد ما سمعه الشيباني بحياته. أنهى عمله بالمكتبة وشكر صديقه جاسم وتوجه بالطائرة إلى نواكشوط، حلم أثناء رحلته الطويلة بالطائرة باستقبال يليق بمحبين صبرا على حبهما سنين طويلة وظفرا بلقاء حميم وزواج ميمون. لكن الواقع كان غير ذلك. في المطار تلقفه ضابط الأمن، أخذه للحجز، ضمن معاملة إذلال وضرب وإهانة، علم أنه وقع ضحية مكيدة، وفهم أن رسالة حبيبته كتبت تحت الإجبار من والدها وأخيها. وضع في السجن في زنزانة سيئة ووسط معاملة قاسية. أفهمه السجانون أن لا مخرج له من هناك. حققوا معه واجهوه بحكاية كاملة عن حياته. تتهمه بأنه واحد من المجموعات الإرهابية. ربطت ذهابه لأفريقيا بذلك، كذلك علاقته مع الخليجي الوهابي الذي قتل في الدوحة، وأنه يعمل مع الطبيب السوداني في نفس التنظيم وأنه سيحاكم وإن مصيره الإعدام. لقد جهزوا له ملفاً كاملاً وطلبوا منه التوقيع عليه، رفض، عذبوه كثيراً، انتظر مصيراً غامضاً. وزاد سوء نهايته حصول محاولة انقلاب وهروب السجناء وهو منهم. وذهابه إلى جدته التي عرف أنها توفيت قبل فترة، حزناً لعدم رؤيتها. وحاول الذهاب للقاء سلمى رغم خطورة ذلك. في الأثناء فشل الانقلاب، وعاد الرئيس السابق وبجواره الجنرال والد سلمى، وقد علا نجمه، وهو من أسقط الانقلاب، علم الشيباني أن مصيره سيكون أسوأ، وسرعان ما وصلوا إليه، اعتقلوه وأضافوا اسمه للانقلابيين الذين سيعدمون في اليوم التالي. أعدم الشيباني مع الآخرين وفي نفسه حسرة عدم لقائه بمحبوبته بالدنيا وأمله بلقائها عند رب عادل كريم.
تنتهي الرواية عندما يتلقى الجنرال والد سلمى اتصال من أجنبي مفاده أن ابنته قد هربت إلى ذلك البلد.
في التعقيب على الرواية أقول:
اننا أمام رواية مهمة بكل المعايير، فهي كحبكة أدبية وسرد ومتابعة ناجحة في الجذب والربط ومتابعة الحدث وجعل القارئ يتفاعل معها ويتشوق الى المزيد في صفحات الرواية جميعها.
كذلك تضعنا أمام معرفة تفصيلية على المجتمع الموريتاني في جانبه القروي عاداته وتقاليده وبناه الفكرية والنفسية والسلوكية، وهذا جانب معتم عندنا في المشرق العربي.
كما أنها تغوص عميقاً في المجتمع الخليجي، عبر نموذجه الدوحة، وواقع حياة الناس هناك. المواطنين الكفلاء والعمالة النسائية والرجالية، والمظلومية المقيتة. وغوص في موضوع البنية الدينية السلفية الوهابية التي تصنع إنساناً منفصلاً عن الواقع. مع حالة تزاوج غريب بين تتبع الغرب بكل ملذاته وغوص في التعنت والتصلب المنسوب للدين الإسلامي والدين منه براء.
كذلك لا يخلو مؤشر حضور الجنرال كوالد للحبيبة رمز القمع وعدو الحب والظالم. الذي سيقتل الحبيب لمجرد كونه يريد مصاهرته وهو دون ذلك بالعرف المجتمعي. والأهم تحول الجنرال لرمز البلاد ودخول موريتانيا عصر الاستبداد العسكري متابعة مسار المشرق العربي الذي سبقهم بعقود. قتل العباد وخرب البلاد وجلب الاستعمار…الخ.
وأخيراً ما زلنا نتلمس واقعنا العربي في أقصى المغرب العربي؛ موريتانيا والمشرق العربي؛ الخليج، واحتياج الإنسان للحرية والعدالة والكرامة والوعي والتنوير ورفع المظلومية والاستبداد، وبناء الحياة الأفضل والعيش في الدولة الديمقراطية ضمانة حقوق الإنسان والأداء السياسي المطلوب، وصناعة واقع يليق بالإنسان في هذا العصر.