في انعدام القرارات والمبادئ التي ستصدر لاحقاً عن الهيئة العامة لمحكمة النقض السوريّة
بدايةً مقدمة موجزة في التفريق بين الحكم الباطل والحكم المعدوم والنتائج المترتبة على ذلك:
ميَّزَ اجتهاد الهيئة العامة لدى محكمة النقض رقم (280) أساس (797) تاريخ (2001/10/22) المنشور في الصفحة 135 من مجلة القانون لعام 2001 بين الحكم الباطل والحكم المعدوم بقوله: (كلما كان العيب الذي شاب الحكم مُعدِماً لركن من أركانه الجوهرية فنحن أمام حكم معدوم لا باطل، بمعنى أن حالات البطلان في الحكم هي مجرد عيوب تعتريه وليس من شأنها أن تفقِدهُ طبيعته كحكم لأنها لا تعدو أن تكون شوائب تعيب صحة الحكم دون أن تمتد إلى انعقاده وكيانه، أما حالات الانعدام فهي أعنف من هذا وأشد في الخروج على القانون وهي مخالفات قانونية لا تقتصر على تعيب الحكم بل تعدم أحد أركانه فتجعله والعدم سواء).
وعليــــه، فإنَّ تقرير انعدام الحكم لا يكون إلا إذا فقد ركناً أساسياً من أركان انعقاده والذي من شأنه أن يفقدهُ أو يُنقِصَ من صفته أو من طبيعته كحكم قضائي، وإن أركان الحكم الأساسية وفق ما أورده الدكتور أحمد أبو الوفا في الصفحات 511-512 من مؤلفه “نظرية الدفوع في قانون المرافعات” هي:
– أن يكون صادراً عن جهة قضائية مختصة، وممن يملك ولاية القضاء.
– أن يكون صادراً من محكمة مشكلة تشكيلاً صحيحاً.
– أن يكون صادراً في خصومة صحيحة قائمة بين طرفين تتوافر فيهما أهلية التقاضي
– أن يكون الحكم مكتوباً وأن تتضمن هذه الكتابة بياناته الأساسية.
وفي هذا يقول أستاذنا وفقيهنا المرحوم المحامي “فهر شقفة” ضمن الصفحة (74) من مؤلفه “انعدام الحكم القضائي” ما يلي: (إذا فقد الحكم ركناً أساسياً من أركانه فنحن أمام حكم معدوم، ومن أركانه الأساسية أن يكون صادراً عن جهة قضائية مختصة وممن يملك ولاية القضاء ومن محكمة مشكلة تشكيلاً صحيحاً في خصومة صحيحة قائمة بين طرفين تتوافر فيهما أهلية التقاضي وأن يكون الحكم مكتوباً وأن تتضمن هذه الكتابة بياناته الأساسية).
أما حالات البطلان، فهي لا تعدو عن كونها مجرد عيوب تعتري الحكم إلا أنه ليس من شأنها أن تفقدهُ من طبيعته كحكم ولا تمتد إلى أركان انعقاده وكيانه، فقد جاء في قرار الغرفة المدنية لدى الهيئة العامة لمحكمة النقض رقم /280/ أساس /797/ تاريخ (2001/10/22) المنشور في الصفحة 107-115 من كتاب انعدام الحكم القضائي للمرحوم “الأستاذ محمد فهر شقفة”، والمنشور أيضاً ضمن الصفحة 135 من مجلة القانون لعام 2001 ما يلي: (للتفريق بين الحكم المعدوم والحكم الباطل لابد أولاً من التعريف بالحكم الصحيح والذي استقرت أحكام الفقه والاجتهاد على أن الحكم السليم إنما هو القرار الصادر عن محكمة مشكلة تشكيلاً صحيحاً في خصومة رُفِعَت فيها الدعوى وفق قواعد المرافعات سواءً كان صادراً في موضوع الخصومة في شق منه أو في مسألة متفرعة عنه ولمعرفة متى يكون الحكم باطلاً ومتى يكون معدوماً لابد من الإشارة إلى أن التفريق بين هذين الحكمين ليس من هنَّات الأمور بل إنها تدق في كثير من الآحيان ومن هنا احتدم الجدل والخلاف بصدده في ساحات المحاكم وكُتب الفقهاء ولكن يمكن القول على أنه كلما كان العيب الذي شاب الحُكم معدماً لركن من أركانه الجوهرية فنحن أمام حكم معدوم لا باطل، بمعنى أن حالات البطلان في الحكم هي مجرد عيوب تعتريه وليس من شأنها أن تُفقدهُ طبيعته كحكم لأنها لا تعدو أن تكون شوائب تصيب صحة الحكم دون أن تمتد إلى انعقاده وكيانه أما حالات الانعدام فهي أعنف من هذا وأشد في الخروج على القانون وهي مخالفات لا تقتصر على تعيب الحكم بل تعدم أحد أركانه).
بعد هذه المقدمة المتواضعة في التمييز بين الحكم الباطل والمعدوم، ننتقل لمناقشة قرار السيد وزير العدل المؤقت “الشيخ شادي الويسي” بتعيين الشيخ “أنس منصور سليمان” رئيساً لمحكمة النقض السوريّة، والذي تأكد بموجب قرارهِ ذي الرقم (4) تاريخ 2025/1/13 القاضي بتشكيل لجنة برئاسة الشيخ “أنس منصور سليمان” بصفتهِ “رئيساً لمحكمة النقض”، لمقابلة السادة القضاة ممن أتموا الخامسة والستين عاماً ولديهم رغبة بالاستمرار بالعمل لتقييم مدى إمكانية ذلك في ضوء الظروف الصحية… إلخ ما جاء في ذلك القرار.
لقد باتَ من الواضح أنَّ تعيين الشيخ “أنس منصور سليمان” رئيساً لمحكمة النقض السوريّة هو أمر واقع، أصرَّ عليه السيد وزير العدل المؤقت “الشيخ شادي الويسي” رُغمَ الاعتراضات القانونية التي أثيرت بصدد ذلك التعيين، وفي هذا أوضحُ لعناية السيد وزير العدل المؤقت ما يلي:
السيد وزير العدل المؤقت في الجمهورية العربية السوريّة
تحية الحَقّ والعروبة
بما أن قرارتكم كافة الصادرة مؤخراً بما يتعلق بإدارتكم “المؤقتة” للمِرفق القضائي قد صدرت بناءً على أحكام قانون السلطة القضائية النافذ ذي الرقم (98) لعام (1961) وتعديلاته، طبقاً لما هو وارد في مقدمة كافة القرارات الصادرة عن جانبكم الكريم ما يعني أنهُ القانون النافذ والساري بما يتعلق بالسلطة القضائية في الجمهورية العربية السوريّة، وبما أنَّ الأمر كذلك فإنَّ قراركم بتعيين الشيخ “أنس منصور سليمان” رئيساً لمحكمة النقض، جاءَ مخالفاً لقانون السلطة القضائية النافذ لجهتين:
لجهة المؤهل العلمي:
إنهُ وفي معرض تحديد شروط من يُولّى قضاء الحكم أو النيابة العامة، فقد نصت الفقرة /د/ من المادة (70) من قانون السلطة القضائية ذي الرقم (98 /1961) وتعديلاته على أن يكون:
((حائزاً على إجازة الحقوق من إحدى جامعات الجمهورية العربية السورية أو على إجازة حقوق من جامعة أخرى تعتبر معادلة لها قانوناً بشرط أن يكون في هذه الحالة حاملاً شهادة التعليم الثانوني أو شهادة معادلة لها قانوناً وأن ينجح في فحص التعادل المنصوص عليه في القوانين النافذة)).
وبما أنَّ “الشيخ” أنس حائز على إجازة في الشريعة الإسلامية في العام 2010، ما يجعلها غير معادلة لا من حيث المواد ولا من حيث الغاية والهدف لإجازة الحقوق المعنية والمقصودة ضمن الفقرة /د/ من المادة (70) من قانون السلطة القضائية النافذ.
وعلى فرض وكما جرى تداولهُ مؤخراً لجهة أنَّ “الشيخ” أنس قد تابع تحصيله العلمي في جامعة إدلب الخاصة للشريعة، وأن دراسة الشريعة في تلك الجامعة تتضمن دراسة القانون، فإنَّ ذلك ليسَ من شأنهِ أن يُسعفَ القرار بتعيينه رئيساً لمحكمة النقض، ومنحهِ صفة “القاضي”، ذلك أنَّ تلك الجامعة ليست من ضمن الجامعات المعتمدة في الجمهورية العربية السوريّة المعنية والمقصودة ضمن الفقرة /د/ من المادة (70) من قانون السلطة القضائية النافذ من جهة، كما أنَّ المواد التي درسها “الشيخ” أنس في كلية الشريعة الخاصة بإدلب لا تعادل المواد والمناهج القانونية المعتمدة في التدريس والفحص والامتحان لنيل إجازة الحقوق في الجامعات المعتمدة في الجمهورية العربية السوريّة، والمعنية والمقصودة بعبارة “فحص التعادل” الواردة ضمن الفقرة /د/ من المادة (70) من قانون السلطة القضائية.
لجهة الأصول القانونية الواجبة في تولي منصب رئاسة محكمة النقض السورية وهيئتها العامة:
من المعلوم أن من يرأس تلك المحكمة هو المستشار الأقدم في محكمة النقض، وفي حال الغياب ينوب عنه نائبُ الرئيس الذي يليهِ في القِدم، أو المستشار الأقدم فقد نصت المادة (49) من قانون السلطة القضائية على ما يلي:
(ف1 – تؤلف الهيئة العامة في محكمة النقض من سبعة مستشارين من الدائرتين المدنية والجزائية في المواد المدنية والتجارية والجزائية، ومن الدائرتين المدنية والشرعية في المواد الشرعية على أن يكمل النصاب من باقي مستشاري محكمة النقض بتكليف من الرئيس.
ف2- يرأس رئيس محكمة النقض الهيئة العامة، وعند تعذر ذلك نائب الرئيس أو المستشار الأقدم).
لذلك وبما أنَّ:
– محافظة إدلب هي جزء لا يتجزأ من محافظات وأراضي الجمهورية العربية السورية وليس العكس.
– إنَّ القوانين والتشريعات النافذة في أراضي الجمهورية العربية السورية بما فيها قانون السلطة القضائية ذي الرقم (98 /1961) وتعديلاته هي النافذة في إدلب وليس العكس بالأخص بعد التحرير وسقوط النظام البائد.
– للجمهورية العربية السورية محكمة نقض واحدة مركزها دمشق (م44/1) من قانون السلطة القضائية وإن أحكام محاكم إدلب القابلة للطعن بطريق النقض، بعد التحرير وسقوط النظام البائد، تكون أمام محكمة النقض بدمشق دون أية محكمة أخرى، وكانت محكمة النقض في دمشق وهيئتها العامة تتبع في التشكيل والأحكام والتوزيع والرئاسة لقانون السلطة القضائية النافذ ذي الرقم (98 /1961) وتعديلاته دون أي قانون آخر.
بالتالي، فإنهُ وعلى فرض أن “الشيخ” أنس مارسَ القضاء قبل التحرير في محافظة إدلب، فقد بات بعد التحرير وإسقاط النظام البائد فاقداً لولاية القضاء بظل قانون السلطة القضائية النافذ.
وعلى سبيل الاستطراد المطلق فإنهُ على فرض أنَّ ولاية القضاء لم تسقط عن “الشيخ” أنس، وهو أمر مستبعد، فإنَّ مدة ممارستهِ لتلك الولاية وخبرتهُ القاصرة على محافظة إدلب قبل التحرير لا يمكن لها أن تؤهلهُ لرئاسة محكمة النقض السوريّة وهيئتها العامة.
وهذا يقودنا إلى عدم صحة تعيين “الشيخ” أنس رئيساً لمحكمة النقض السوريّة وبالتالي هيئتها العامة، وانعدام القرارات الصادرة عنها لعدم صحة تشكيل المحكمة، وهنا أبين لجانبكم الكريم ما يلي:
جاء ضمن الفقرة (ب) من مطالعة إدارة التشريع في وزارة العدل السورية المؤرخة في 23/12/1959 المنشورة ضمن الصفحة 97 من العدد العاشر من مجلة القانون لعام 1960 ما يلي: (إن الحكم الصادر عن محكمة لا ولاية لها يكون معدوماً لا وجود قانوني له Inexistant، وكذلك إذا صدر عن محكمة ذات ولاية، ولكن تشكيل الهيئة غير قانوني، ولا حاجة للطعن بالحكم حتى يتقرر ذلك، إذ أنه تعتبر كذلك بدون حاجة للطعن فيه، وتقام الدعوى في هذه الحالة أمام المحكمة المختصة، وإذا كان الحكم المذكور موضع تنفيذ فتقرر المحكمة وقف تنفيذه، وتعلن أن الحكم المذكور معدوم).
بالتالي، فإنَّ عدم صحة تشكيل المحكمة، وإن كانت صاحبة ولاية، من شأنهِ أن يجعل الحكم الصادر عنها معدوماً لأن صحة تشكيل المحكمة هو ركن جوهري من أركان الحكم القضائي، فإذا اختل ذلك الركن فإنَّ ذلك من شأنهِ أن يجعل الحكم الصادر عنها معدوماً، وهو ما سبق أن استقر عليه اجتهاد مقام الهيئة العامة لمحكمة النقض في قرارها ذي الرقم (34) أساس (3) تاريخ (7/10/1992) من أنَّ:
(القاعدة القانونية لتقرير انعدام الحكم هو أنه إذا فقد ركناً من أركانه الأساسية عُدَّ معدوماً وحتى تتوافر في الحكم أركانه الأساسية يتعين أن يكون صادراً عن الجهة القضائية المختصة وممن يملك ولاية القضاء ومن محكمة مشكلة تشكيلاً صحيحاً في خصومة صحيحة قائمة بين طرفين تتوافر فيهما أهلية التقاضي ويتعين أن يكون الحكم مكتوباً وأن تتضمن هذه الكتابة بياناته الأساسية.. منشور في الصفحة 796 من مجلة المحامون لعام 1992).
الأمر الذي شأنهِ أن يجعل من تعيين “الشيخ” أنس رئيساً لمحكمة النقض السوريّة خللاً جوهرياً في تشكيل هيئتها العامة، ما يجعل من الأحكام والمبادئ التي سوف تصدر عنها مستقبلاً أحكاماً معدومة لا تتمتع بصفة السند التنفيذي بحيث باتَ يمكنُ التصدي لها بالانعدام سواءً بدعوى المبتدئة، أم أمام دائرة التنفيذ المختصة بما يعرف بالإشكال التنفيذي، وفي هذا يقول المرحوم العلامة “نصرت منلا حيدر” في مقالته المنشورة في العدد السابع من مجلة المحامون لعام 1966 بعنوان “لمحة عن قواعد التنفيذ الجبري في أصول المحاكمات المدنية” ما يلي:
(إن أسباب بطلان الحكم لا تدخل في مفهوم اشكالات التنفيذ بخلاف أسباب انعدامه التي تدخل في المفهوم المذكور لأن الحكم المعدوم لا يتمتع بأي وجود قانوني وبالتالي تنتفي عنه صفة السند التنفيذي ومن أسباب الانعدام أن يصدر الحكم عن قاضٍ لم يحلف اليمين قبل إصداره الحكم أو بعد زوال صفته القضائية، أو عن جهة قضاء غير عادي خارج حدود اختصاصه).
وبهذا فقد باتَ حتى للسيد رئيس التنفيذ الصلاحية القانونية في التصدي لمسألة انعدام الحكم المطروح أمامه للتنفيذ أو انعدام الإجراء المرتبط به، والامتناع بالتالي عن تنفيذه في حال ثبُت أمامه تحقق انعدام ذلك الحكم، ذلك أنَّ أمر الانعدام يدخل في صميم مفهوم الاشكال التنفيذي الذي هو بدورهِ من صميم صلاحيات رئيس التنفيذ، وهذا ما أقره اجتهاد الهيئة العامة لدى محكمة النقض رقم (280) أساس (797) تاريخ (2001/10/22) المنشور في الصفحة 135 من مجلة القانون لعام2001 بقوله الجاري في متنه بصيغة:
(ويبنى على التمييز بين الحكم المعدوم وبين الحكم الباطل أنه يمكن التمسك بانعدام الحكم بطريق الدفع في دعوى قائمة أو عن طريق الاشكال التنفيذي أو بإقامة دعوى مستقلة)، وهو مبدأ سبق وأن أقرّته محكمة الاستئناف المدنية الأولى بدمشق بصفتها الناظرة بالقضايا التنفيذية بقولها: (الأحكام الواجبة التنفيذ هي الأحكام المكتملة لشرائطها وإن انعدام القرار يجعله غير صالح للتنفيذ وبالتالي لا يملك مقومات السند التنفيذي الصالح للتنفيذ الجبري إن هذا الأمر يعتبر من الاشكالات التنفيذية إذ لا يجوز لدائرة التنفيذ أن تنفذ حكماً معدوماً وإن تصدي الدائرة لهذا الأمر لا يعتبر تعرضاً للموضوع تأسيساً على الفكرة التالية إن الحكم المعدوم هو والعدم سواء ولا يرتب أي أثر قانوني ولا يلزم الطعن فيه للتمسك بانعدامه وإنما يكفي إنكاره عند التمسك فيه….. محكمة الاستئناف المدنية الأولى بدمشق قرار 209 أساس تنفيذي 261 تاريخ 1988/3/31 منشور في الصفحة 309 من مجلة المحامون لعام 1988).
السيد وزير العدل المؤقت:
إنَّ حرصنا على صدور الأحكام والمبادئ القانونية عن الهيئة العامة لمحكمة النقض السوريّة دون أن يطالَ أي من أركانها أي انعدام كان يستدعي من جانبكم الكريم الأخذ بعين الاعتبار ما جاء ضمن هذه المطالعة القانونية المتواضعة وبالتالي العودة عن قراركم المتضمن تعيين “الشيخ” أنس منصور سليمان رئيساً لمحكمة النقض السوريّة، واستبداله فوراً بأحد السادة القضاة الحاليين لدى محكمة النقض السوريّة أصحاب القِدم القانوني المقرر لرئاسة تلك المحكمة.
إنها محكمة النقض السوريّة حضرة وزير العدل المؤقت، إنها دمشق مركز محكمة النقض السوريّة الوحيد، إنهُ قانون السلطة القضائية النافذ على كامل مساحة جغرافيا الجمهورية العربية السورية، ولا يمنعكم قرارُ أصدرتموه بالأمس فراجعتم به أنفسكم وبانَ لكم خطؤكم أن تعودوا عنهُ فإنَّ في ذلك كل الفضيلة.