fbpx

في الزلزال.. قراءة اجتماعية

0 325

لم يخطر في بالي أبداً حين كتبت مقالي الشهر الماضي أن القراء الكرام سيقرؤونه صبيحة الزلزال حين زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها يومئذ تحدث أخبارها، فقد كان الزلزال كما وصفه المحللون أعنف زلزال في القرن الجديد وواحداً من أشد الزلازل هولاً في التاريخ كله.

ولا تنتظر من هذا المقال أن يضيف لك أرقاماً أو إحصاءات جديدة فالأخبار على مدار الساعة، وكلها تقدم بالصوت والصورة أشد المشاهد هولاً وذهولاً، وكلها تأخذك إلى موقع الحدث بما لا يمكن أن يعبر عنه كلام ولا قصيد.

ولكن الزلزال شأن اجتماعي أيضاً، فقد أخرج الزلزال أجود ما فينا وأخرج أسوأ ما فينا، فالتعاضد والتعاون والإخاء بين السوريين حقق نتائج مذهلة، مليئة بالتضحيات والعمل الصالح والإحسان إلى الناس، وظهرت الفرق التطوعية المذهلة تحقق نجاحات تضارع أكثر الهيئات تقدماً وخبرة وعطاء، وأسجل بشكل خاص احترامي وتقديري لمجموعتي ملهم والخوذ البيضاء، وأرجو أن ينصف الزمان هذه المبادرات المذهلة وأن تنال أعلى جوائز العالم قدراً، وهكذا فقد شاهد الناس الهول وأدركنا أن الدنيا أهون من أن نتصارع عليها، وأن علينا أن نجد سبيلاً نتعاون فيه لمواجهة غضب الطبيعة التي أثبتت أنها لا تفرق بين عربي وكردي ولا بين مسلم وكافر ولا بين غني وفقير.

الزلزال هدم الهوة بين العربي والكردي، وبين المسلم والمسيحي، وبين الموالاة والمعارضة، فحين هز العالم كتفيه وتهاوت المباني المكتظة بالسكان، لم تكن هناك ملائكة تحمل المؤمنين ولا شياطين تجلد الفاسقين، واستوى الكل تحت قدر الهول، وتساقطت تلك الأفكار الساذجة التي تريد قياس العالم على قد موروثها وأوهامها وموازينها العابثة.

ولكن في الوقت نفسه أخرج الزلزال أسوأ ما فينا، وتعرفنا في غمرة الزلزلة على أسوأ ما يمكن أن يفعله الحقد الأسود بالإنسان، ولأول مرة أسمع مصطلح لصوص الزلازل، الذين استطاعوا أن يتسللوا في رهبة الموت إلى بعض بقايا البيوت المنكوبة، وحملوا فوق جثث الشهداء ما وجدوا من ذهب وفضة وأيقونات ونقود، وهم يعتبرونها غنائم مشروعة حملتها لهم يد الأقدار وعلى الهالكين السلام.

وإزاء هذه اللصوصية الطائشة ظهر هناك نوع آخر من اللصوصية الأنيقة، عبر أشرار محترفين كانوا يستقبلون قوافل الإغاثة مباشرة إلى مزارعهم ومستودعاتهم ليتم بيعها في مكان آخر على يد لصوص الحرب، الذين مات فيهم كل شرف وضمير.

ولكن لصوص الزلازل على بشاعتهم وقباحتهم ليسوا أسوأ ما صدر عن السوريين في هذه المحنة ولعل أسوأها من وجهة نظري هو موقف حراس المعابر المستأجرين في إرادتهم والمؤجرين لضمائرهم وأخلاقهم، حين وقفوا سداً صلباً في وجه مساعدة السوري لأخيه، وفي صيغة من التحقير والمكر أدار هؤلاء الأشقياء ظهورهم لعذابات السوريين تحت الأنقاض، وصراخ الأطفال والنساء بطلب النجدة والغوث من البرد القارس والهلاك المدمر، ووقفوا في وجه من يمد العون للسوري المنكوب.

لم أصدق أبداً أن ثواراً يتحدثون باسم عذابات الشعب ومظالم الشعب يتحولون إلى زبانية غلاظ شداد بوابين على جهنم، يحولون بين الناس وبين رحمة ربهم، وشاهد العالم مئات الشاحنات وهي تقف على المعابر تنتظر أمراً من مكاتب بعيدة من أجل ان تدخل بالغذاء والدفء والدواء للسوريين الذين توزعوا تحت الأنقاض وفوق الأنقاض.

كان يمكن لهذه القوافل أن تنقذ روحاً، وربما وجد المرتجفون بعض الدفء يحول بينهم وبين الموت الذي ذاقوه في أنقاضهم المتجمدة وهم يهتفون للأرواح الصامتة تحت الأنقاض، لو كان لهؤلاء (الثائرين) بعض من قلب أو روح!!.

ومع ذلك فهذا العمل المتوحش الذي انتهى برفض دخول الإغاثة ليس أسوأ ما في الأمر بل الأسوأ من وجهة نظري تمجيد هذه النذالة والخسة بدعاوى المقاومة والثورة، واعتبار هذا التوحش البهيمي في منع موارد الخير عن الناس عملاً ثورياً بطولياً، على الرغم مما خلفه هذا التصرف اللئيم من فصول في الكراهية والأحقاد، بين الفصائل السياسية وبين العرب والكرد، وبين الفقراء والأغنياء.

لن يصدق الزلزال نفسه حين يرحل أن هذه الهزات العنيفة التي حطمت أبراجاً هائلة بمن فيها لم تنجح في تحطيم الكراهية في قلوب أشبعت بالضغينة وباتت تعتاش على بيع الكراهية والبغضاء.

لابد من هذه الصورة بكل تفاصيلها المرعبة، لعل أبناءنا وأحفادنا يدركون أن الاصطفاف القومي والطائفي عمل بهيمي لا علاقة له بالإنسان، وأن الأمم الحية لم تنطلق من رقادها إلا حين ركلت هذه الولاءات المقيتة وعكفت في محراب الإنسان، حيث تختصر عند الإنسان غايات هذا العالم وعند قدميه سجدت الملائكة والسموات والأرض، فمن أي طينة أولئك الذين يمنعون عن الناس الحياة إرضاء للسياسة، ومن قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني