fbpx

في التسامح

0 217

“الكراهية مثل السرطان غير المكتشف، تأكل شخصية من تصيبه” مارتن لوثر كينغ

ثائر الزعزوع

استخدمت و بشكل عرضي تعبير، أنا “أكره” هذه الشجرة، في إطار حديثي عن شجرة كانت تشغل حيزاً من الفناء الخارجي في حديقة البناء الذي أعيش فيه، و كانت تحجب الشمس عن نافذتي المطلة على الحديقة، لكن ردة فعل صديق فرنسي كانت مستغربة، فلماذا استخدمت مصطلح “الكره”، بدل استخدام مصطلح يدل على الانزعاج مثلاً، كأن أقول إن وجود تلك الشجرة يزعجني، أو أني لا أحب أن تظل تلك الشجرة تحجب الشمس عني. تدقيق الصديق الفرنسي استوقفني، فنحن، أقصد شعوب الشرق، نستسهل استخدام الفعل “أكره”، للتعبير عن مشاعر بسيطة و لا تستحق الكراهية، فمثلاً أنا لا أحب فصل الصيف، أو أنا لا تعجبني طريقة لعب الفريق الفلاني، أو أنا لا أفضل الطعام المذكور في قائمة الطعام التي قدمت لي في المطعم، إذ سرعان ما نعبّر، و دون تفكير أحياناً، عن ردة فعلنا بالقول أنا “أكره” فصل الصيف، أنا “أكره” المثلجات، و هذه كلها ردود فعل غير حقيقة أو تعبير غير حقيقي، و ليس سليماً أبداً، فلماذا قد يكره أحدنا فصل الصيف مثلاً؟ هل ثمة شيء شخصي بينه و بين ذلك الفصل؟ لا طبعاً، لكنه استسهال في استخدام المفردة، التي تترسخ أكثر فأكثر في لغتنا اليومية، فتقصي كل ما عداها من مفردات، قد تكون أكثر تعبيراً، و أقل حدة.

هذه المقدمة عن استخدام مفردة “الكره”، سوف تنقلني إلى المرة الأولى التي دعيت فيها، للمشاركة في مبادرة ذات طابع “وطني” و سوف أضع “وطني” بين قوسين، لأنني مصرٌّ على أننا لم نصل بعد إلى تعريف حقيقي لمعنى الوطن. تلك المبادرة التي أطلقت عام ٢٠١١ كان عنوانها الرئيس “كلنا سوريون” و في تفاصيلها نبذ الطائفية و القبلية و التعصب أياً يكن منبعه أو محتواه، و قد بدت مبادرة جميلة و مهمة، خاصة و أن النظام كان قد بدأ فعلاً في تفتيت الشعب السوري، كي يسهل اصطياده، وقد نجح إلى حد كبير في ذلك، ولعلنا نذكر أن آلته الإعلامية بدأت مبكراً في تصوير الحراك الشعبي على أنه “فتنة طائفية” فقد اعتبرت المستشارة الإعلامية و السياسية لرأس النظام السوري بثينة شعبان و بعد عشرة أيام فقط على بدء التظاهرات المطالبات بالإصلاحات، “أن تلك التظاهرات تندرج ضمن مشروع طائفي يحاك ضد سوريا ولا علاقة له بالتظاهر السلمي” طبعاً لم توضح شعبان ما الذي استندت إليه كي تطلق ذلك التصريح “الخطير” الذي لقي آذاناً صاغية عند بعض الجهات، و عملت على استثماره، تماماً كما أراد النظام، و الذي سوف يواصل عملية التفتيت، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن.

ولعلي أقول الآن بمرارة إن تلك المبادرة “كلنا سوريون” لم يكتب لها النجاح، لأسباب كثيرة، لعل أهمها الاصطفافات التي بدأت تطفو على السطح، و لاحقاً، ضياع بوصلة الثورة السورية، و تسلل الكثير من المشاريع الغريبة إليها، تماماً كما سوف تتسلل الكراهية، محملة بمفرداتها الثقيلة، بل و المخيفة في آن معاً، و يبدأ الشرخ يتسع شيئاً فشيئاُ بين السوريين الذين كانوا حتى وقت قريب، جيراناً و أخوة، و أصدقاء دراسة و عمل.

لاحقاً، و بشكل شبه دوري ربما، صارت تظهر مبادرات، وبيانات، و تجمعات خجولة أحياناً، كلها بلا استثناء تدعو إلى نبذ خطاب الكراهية بين السوريين، وقد ساهمت في إطلاق إحدى تلك الحملات، عام ٢٠١٦ حين استعرت “نيران الكراهية” بسبب مقال هنا و تصريح هناك، و و و إلى أن تصل الأمور إلى حد تبادل الشتائم، عبر وسائل التواصل الاجتماعي طبعاً، و قلت مرة إننا محظوظون لأن وسائل التواصل الاجتماعي لا توفر لمستخدميها أسلحة، و إلا لكنّا شهدنا حروباً طاحنة، كل يوم، بين هذا الطرف و ذاك.

إذاً، كيف يمكن النظر إلى “خطاب الكراهية” و الأهم كيف يمكن معالجة هذا الخلل الفادح، و التخلص منه؟

أجدني دائماً في مواجهة هذا السؤال، المعقد، و الذي لا أعثر في الكتب عن إجابات واضحة عليه، لكن، قد نعثر على نقيضه، أقصد كيف يمكن البحث عن “التسامح” مثلاً؟ و لماذا دائماً، نشدد على أن “نبذ الكراهية” هو الحل، بينما قد يكون الحل في “التسامح” الذي قد تفهم سياسياً، بمعنى المصالحة، و إن كنت لست ميالاً إلى مصطلح “المصالحة” لما لحقه هو الآخر من تشويه، فالمصالحة حسب أجندة النظام السوري تعني “الإذعان” و “الرضوخ” للسلطة. التسامح يبدو، نظرياً، أسهل بكثير من “نبذ الكراهية” أو “خطابها” فالتسامح أكثر اتساعاً، و أقرب للنفس البشرية، فالإنسان بطبيعته قد يغريه أن يكون متسامحاً، الإنسان الطبيعي طبعاً، و ليس المتشدد المتطرف في أفكاره، و الذي هو في حاجة ماسة إلى علاج نفسي، لتخليصه من لوثة التشدد التي أصابته، و سوف أضرب مثالاً صغيراً عن التسامح، مستمداً من الحالة السورية. ربيع العام ٢٠١٥ ألقى مقاتلو فصائل المعارضة السورية “اللامتشددة” القبض على أحد مقاتلي قوات النظام، و كان ذلك المقاتل متهماً بقتل شاب من إحدى القرى، قتلاً متعمداً، جيء بذلك المقاتل مقيداً بالسلاسل، و عرض على محكمة كانت القاضية فيها والدة القتيل. طلب من المرأة الثكلى أن تنتقم لولدها من قاتله، وقفت السيدة في موقف لا تحسد عليه، فهي محاطة بأصوات تدفعها دفعاً للأخذ بالثأر، ولا شك أن صورة ولدها كانت ترتسم أمام عينيها في تلك اللحظة، تأملت السيدة وجه القاتل، و استدعت في تلك اللحظة تفاصيل حياة ابنها القصيرة، ذكريات طفولته، صوت ضحكه، كل ذلك كانت تستحضره في تلك البرهة العصيبة، و كان القاتل يرتعش خائفاً، فهو مدرك أنه مقتول لا محالة، لكن المرأة رفعت يدها و هوت على وجهه و صفعته، و قالت له: شكوتك لله، فهو من سيأخذ بثأري منك. طبعاً تلك الصفعة لا تمثل انتقاماً، بمقدار ما قد تمثل تخلصاً من الضغط الذي كانت ترزح تحته، و يبدو أنها تخلصت من ذلك الضغط كله، حين أحالت القصاص إلى “الله”، و بالمقابل فهي لم تتورط في لعبة “الثأر” و لعبة “القتل”. يمكن النظر إلى ما فعلته على أنه “تسامح” إذ كانت الوسائل متاحة أمامها للانتقام، لكنها لم تنتقم، بل كان ثمة من يحرضها لتفعل.

للأسف لم ينتشر مقطع الفيديو ذاك، كما تنتشر عادة مقاطع فيديو أخرى كفيلة بإشعال النيران، و زيادة مقدار “الكراهية” و التباعد بين الناس، و نحن في أمسّ الحاجة إلى أن نبحث في مفردات التسامح الكثيرة في حياتنا، كي نستطيع على الأقل، التعايش دون سلسلة من “الثارات” التي لا تنتهي، و التي سوف تكون كفيلة بإشعال حروب أهلية. مثال آخر يمكن البحث في ثناياه عن التسامح، إبان الحرب التركية الأخيرة على الشمال السوري، نزحت مئات العائلات من مناطق مختلفة باتجاه المناطق الأكثر أمناً، و قد فتحت سيدة في مدينة الطبقة بيت ابنها اللاجئ في إحدى الدول لتستقبل فيه أربع عائلات مهجرة، كانت التركيبة داخل ذلك البيت‪/‬المأوى المؤقت مختلفة، لكنهم جميعاً كانوا يتشاركون الخوف و اللقمة، سألت إحدى وسائل الإعلام المحلية السيدة صاحبة البيت عن السبب الذي دفعها لاستقبال كل هؤلاء الناس؟ و هل سألتهم عن دينهم أو قوميتهم؟ فقالت: لم أسألهم و لن أسألهم، إذا انقطعت الرحمة في العالم، على الدنيا السلام. في الوقت نفسه كانت مئات الأصوات تعلو محرضة، و داعية إلى قتل هذا الطرف أو ذاك، لكن السيدة صاحبة البيت، كما عشرات و ربما آلاف الأشخاص لا يستجيبون أبداً لنداءات التحريض، و لا يسمعون بأسماء المحرضين الموتورين، الذين “لا ينطقون عن الهوى” بل يخدمون مشاريع، تهدف أصلاً إلى تمزيق السوريين، تماماً كما عمل النظام، و ربما أكثر. ‬

أخيرا

يتلقى الواحد منا يومياً عشرات الرسائل و الأخبار، و مقاطع الفيديو الكفيلة بنشر الكراهية، لكنه ببساطة يتجاهلها، كيلا يسهم من خلال نشرها في تأجيج نار لا تكاد تنطفئ. إذ لا يكاد يمر أسبوع واحد دون تحريض، أياً يكن الموضوع تافهاً و بسيطاً، فيما لم يكترث الكثيرون، مثلاً، بأغنية تجمع ثلاث قوميات في الشمال السوري، عرباً و كورداً و سرياناً يغنون و يرقصون معاً، في لوحة مليئة بالحب، مليئة بالتسامح.

قد ينفع أن نقول ختاماً: “ إن عقب سيجارة تافهاً قد يشعل هكتارات من الحقول، التي أفنى الفلاحون حياتهم فيها، هذا ما تفعله الكراهية، فتأكد عزيزي “المدخن” لأن تلك النار قد تلتهمك أيضاً”.

مساهمة الأستاذ ثائر الزعزوع في مبادرة “معاً في مواجهة خطاب الكراهية”, التي أطلقها اللقاء الوطني الديمقراطي وتمّ نشرها في صحيفة نينار برس بالاتفاق مع الأستاذ ثائر الزعزوع.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني