fbpx

فرص تشكيل الرأي العام السوري

0 220

ارتبط التعبير عن الرأي وحشد المواقف بحرية وسائل الإعلام المكفولة دستورياً في الأنظمة الديمقراطية، وبات الرأي العام قوة لا يستهان بها، ثم اتخذ التعبير عن الرأي وصياغة المواقف أبعاداً جديدة بعد ظهور وسائل الإعلام الاجتماعية، فبات انتشار المعلومات ونشرها في متناول أي شخص، وهذا أمر غير مسبوق أطاح بسلطة المؤسسات البيروقراطية إلى غير رجعة، وأرغمها على التفاعل المباشر مع آراء الناس واستقاء الأخبار منها. كما صارت الأفكار والآراء تحلق في سماء العالم لتحط أينما وحيثما تشاء في هذا الفضاء التواصلي غير المسبوق.

وعوضاً عن أن تكون هيئات المجتمع الأهلي والمدني التقليدية هي التي تصنع الرأي العام في الدول الديمقراطية، فقد بات هذا الرأي يتشكل في عالم وسائل الإعلام/التواصل الاجتماعية الحالية، بحدود لا حصر لها وبمشاركة أعمّ وأشمل، ولم تعد الأحزاب والنقابات والجمعيات هي ما يحشد الناس للتعبير عن الآراء والمصالح فحسب، إنما تتولى ذلك مجموعات الفيس بوك والهاشتاغات بفاعلية أكبر، وهي التي لا تحتاج إلى الكثير من جهود التنسيق ولا إلى هرمية بيروقراطية، ويمكن أن تنطلق وتتعمم خلال دقائق وتؤدي غرضها حسب درجة المشاركة والاقتناع. كما صارت الشخصيات السياسية والاجتماعية المؤثرة تسارع للتعبير عن مواقفها من خلال تغريدات مباشرة، حتى أن بعض رؤساء الدول صاروا يستخدمون منصات التواصل الاجتماعية للإعلام عن المواقف والقرارات، التي قد يتجاوز تأثيرها حدود هذه الدول.  

ولم يقتصر استخدام وتأثير وسائل التواصل/الإعلام الاجتماعية على مواطني الأنظمة الديمقراطية، بل اجتاحت البلدان التي تحكمها الأنظمة الدكتاتورية أيضاً، والتي لم يكن لأي رأي أن يمر عبر وسائل إعلامها قبل أن يعبر مصافيها الصدئة، ليفقد الرأي معناه ومدلوله، أو يتم حجبه كلياً لصالح الرأي الوحيد المعتمد من قبل السلطة، والمخالف لناموس الطبيعة ومنطق التنوع في الحياة. 

وعند اندلاع أحداث الربيع العربي، كانت وسائل التواصل الاجتماعي قد بدأت تترسخ في أرض الواقع كرافد لوسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، قبل أن تنافسها في الحصول على المعلومة ونشرها وتداولها. وعلى الرغم من تأخر سورية في كل جديد، فقد تحررت هذه الوسائل لتستخدمها جميع الأطراف، بغض النظر عن توجهاتها، في التنافس على دعم وجهات النظر وتوثيق الأحداث ونقلها عبر الفضاء الإعلامي الفسيح.

لكن التفاوت في درجة المصداقية صار يتطلب الحذر في تلقي المعلومات، ويحتاج إلى جهد القارئ وذكائه للتمييز بين المعلومات الحقيقية والمزيفة في سيل الأخبار المتدفق بلا انقطاع، وانسحب ذلك، وعلى نحوٍ خاص، على ما يُنشر في وسائل التواصل الاجتماعية. ففي ظروف احتدام الصراع متعدد الأطراف والمصالح، اختلط الحابل بالنابل، وتم تداول المعلومة ونقيضها في آنٍ معاً، وانتقلت الحرب الضروس إلى الصفحات الشخصية والعامة، وتناثرت الأحقاد والصراعات المذهبية والقومية، لتزيد من مرارة الواقع وتعزز عدمية الصراع في سورية المنكوبة بأكبر الكوارث. في هذه الأجواء، بات التفكير الحر والمنطقي والوطني محاصراً ومهملاً، وصار يصارع ليجد له حيزاً، ولو محدوداً، في الفضاء العام، فهو، في نهاية الأمر، ضمان قيامة سورية من جديد على أنقاض كل هذا الدمار المادي والبشري والروحي.

في هذه الأثناء، تكثفت أمراض المجتمع وانفجرت تناقضات كنا نعتقد أن الزمن قد طواها إلى غير رجعة، وتشابهت خطابات وممارسات معظم “النخب” السورية التي “رضعت” من الاستبداد التاريخي والمعاصر، وتركزت في ثقافتها التناقضات الاجتماعية لتفتك بما تبقى من قيم اجتماعية وإنسانية، بينما كانت معاناة السوريين في أوجها، فلم تحل هذه “النخب” مشكلة ولم تصل إلى هدف، وأكملت دائرة الصراع العدمية.

وبمرور الوقت واستنفاذ طاقاتها، بدأت الخطابات المؤذية واللاوطنية بالانحسار، ولكنها بقيت تطل برأسها عند حدوث أي أزمة طارئة أو حدث أليم، فتعود الأحقاد لتنفجر، وتصبح الخطابات والآراء معبرة عن الانتماءات ما قبل الوطنية للمعبرين عنها، في سعيهم للتمترس وراء أفكار مسبقة وليّ الحقائق ولو كانت بينة، كاستغاثة عطشان أو جريح نازف، وكأن على المستغيث أن يظهر انتماءه القومي أو المذهبي حتى يُغاث! حجبت هذه الآراء المستقطبة الكثير من آراء السوريين العاديين، وهم ليسوا بقلة، والذين لا يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي ويريدون العيش بكرامتهم والتعاون على قضاء حاجاتهم، بعيداً عن صراعات “النخب” ومفاسدها، ما حجب جزءاً مهماً من الرأي العام السوري، وطني الفطرة وصادق الانتماء.

إن إتاحة التعبير الحر عن الرأي للجميع و”الإفراج” عن الرأي العام السوري المكبل ببقايا الاستبداد ونظائره، سيمثل نقلة مهمة نحو السلم الأهلي، وربما سيشكل مفاجأة لناشري الأحقاد، الذين وجدوا في فوضى الحرب ملاذاً لهم وموطئ قدم، ما قد يعرضهم للمساءلة القانونية ما إن يتوفر حد معقول من العدالة الانتقالية، حين تضع سورية أولى خطواتها على طريق الخلاص وإعادة بناء دولتها الحديثة ومؤسساتها القانونية والمدنية وفي طريق لن تكون سهلةً، ولكنها الطريق الوحيدة من أجل عودة سورية إلى الحياة من جديد.

إنها خطوة مهمة إلى الأمام أن يتشكل رأي عام سوري، ومقدمة ليعبّر هذا الرأي عن المصالح لا أن تتنازعه العصبيات وتضيع فيه الحقوق، وهذا يحتاج إلى جهود النخب الوطنية لجمع السوريين من جديد حول قضاياهم ومصالحهم المستباحة من قبل الدول ووكلائها المحليين، المستفيدين الوحيدين من استمرار الخراب ودوام واقع الحال الأليم.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني