عمل المرأة السورية في تركيا.. واقع مختلف وتحدٍ جديد
يعيش معظم السوريين في تركيا ظروف عمل قاسية، وقد أسهمت حركة لجوء السوريين إلى تركيا بانتقال شريحة واسعة من اليد العاملة السورية التي دخلت سوق العمل التركي، وأثّرت فيه بشكل واضح، وقد سمحت مجالات العمل المختلفة التي استقبلت السوريين بتأمين مورد مالي مكّنهم من تأمين احتياجاتهم المعيشية بالحد الأدنى، واختلفت أنماط العمل الذي اعتادوا عليه في بلادهم من حيث ساعات العمل التي لم تتجاوز في متوسطها 8 ساعات، بينما حدد قانون العمل التركي ساعات العمل الرسمي بـ 9 ساعات يومياً تتخللها ساعة استراحة للغداء.
وبحسب الإحصائيات الرسمية الصادرة عن الحكومة التركية، يعيش في تركيا تحت بند الحماية المؤقتة ما مجموعه 3.643.870 سوريا، وتشكل العمالة السورية 2.9% من إجمالي حجم العمالة في سوق العمل التركي الرسمي وغير الرسمي وفقاً لإحصائيات الحكومة التركية وتمثل النساء ما نسبته 46.2% منهم أي حوالي مليون ونصف المليون، وتشكل النساء اللواتي تترواح أعمارهن بين 18-59 سنة النسبة الأكبر بينهن.
ومع ظروف العمل الطويلة والشاقة يتلقى 75% منهم رواتب أقل من الحد الأدنى من الأجور والبالغ 2825 ليرة تركية؛ حيث يتقاضى 50% منهم متوسط أجر شهري يتراوح بين 1500-2500 ليرة تركية (175-300 دولار)، فيما يتقاضى 25% رواتب تزيد عن 2500 ليرة، فمعدلات الرواتب لا تتناسب مع ساعات العمل الطويلة؛ إلا أن حيازة ملكات لغوية متقدمة يمكن أن تزيد فرصة الحصول على راتب أعلى في بعض الأحيان.
وحول الوضع القانوني للعاملين السوريين في السوق التركية، يعمل 90% من الشريحة المدروسة بشكل غير نظامي، ودون تراخيص عمل رسمية، رغم أن 85% منهم ليس لديهم أي عائق قانوني لاستصدار هذه التراخيص؛ إنما يرجع السبب الرئيسي لتهاون أرباب العمل والرغبة في التهرب من دفع التأمينات الاجتماعية في محاولة لتخفيض تكلفة الإنتاج.
جازية من دير الزور، لم تكن تعمل عندما كانت في سورية، لأن زوجها من كان يعمل ويتولى شؤون الأسرة المالية، لكن الأحوال تبدلت بعد مجيئهم إلى تركيا حيث سكنوا بداية في أحد المخيمات التي جهزتها الحكومة التركية لاستقبال اللاجئين.
تقول جازية: بدأت بصناعة الخبز السورية كوني أتقن هذا العمل منذ كنت في سورية مقابل بعض الليرات القليلة ولكني كنت مجبرة على ذلك من أجل دفع الديون التي تراكمت علينا مقابل دخولنا إلى تركيا، لكن الأمور لم تسر على ما يرام فقد تم إلغاء المخيمات ما اضطرنا للبحث عن منزل واستئجاره في أورفا.
بدأ زوجي العمل في مجال الإنشاءات وبعد ثلاثة شهور، سقط زوجي من بناء بارتفاع 3 طوابق وأصبح غير قادر على العمل، ما دفعني للعمل أنا والاولاد في جمع الكرتون والخبز اليابس، وأعمل في صنع المونة وطلبيات للمنازل من مختلف أنواع الطعام من أجل تأمين دخل لأسرتي.
السوريات في سوق العمل التركي
رغم اختلاف الظروف الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية، تمتلك النساء اللاجئات مؤشرات جيدة عن الثقة بالنفس والرغبة في التمكّن، والحصول على فرصة لتنمية دورهن الاجتماعي، والتحول نحو الإنتاج بعد معاناة الهجرة والحرب واللجوء، وجدت المرأة السورية نفسها بمواجهة الواقع، فبعد غياب الرجل سواء كان زوجاً أم أباً، الذي اعتادت الكثير من الأسر الاعتماد عليه، كمعيل ومسؤول عن الأسرة، كان لا بد للنساء من أن تقوم بدور المعيل.
أضافت فاطمة الأحمد وهي لاجئة من حمص، زوجها كان يعمل موظفاً حكومياً في سوريا: ظروف الحرب دفعتنا للقدوم إلى تركيا بحثاً عن الأمان، زوجي يحمل شهادة جامعية لكنه لم يحظ بفرصة عمل، ما دفعني للبحث عن أي عمل مناسب لعمري مهما كان نوعه، علماً أنني في الخمسين من عمري، لكن هذا لم يكن عائقاً، بداية اشتغلت بأعمال الزراعة مثل جني الزيتون والفليفلة واشتغلت بمعمل للفليفلة وتقدمت لدورة بالزراعة لمدة 50 يوم مع الهلال الأحمر التركي مقابل الحصول على 60 ليرة تركية. تضيف السيدة فاطمة: على الرغم من أن عملنا يبدأ من الساعة 8 وينتهي في الساعة 5 عصراً، والمقابل بسيط جداً قياساً بالجهد الذي نبذله، لكنني مضطرة للعمل. تضيف فاطمة بأنها لم تكن تعرف أي شيء عن أعمال الزراعة حتى قدمت إلى تركيا، فقد عاشت وتزوجت في المدينة. اليوم تعاني فاطمة من بعض الأمراض مثل الديسك الذي أصابها نتيجة فترة الوقوف الطويلة في العمل.
وقد غيّرت ظروف العمل في السوق التركي نمط العمل الذي اعتادت العمالة السورية عليه؛ فانتقلت هذه العمالة إلى أعمال أطول وأقل استقراراً، كما استوعبت أعداداً أكبر من النساء اللواتي تحولن نتيجة ظروف اللجوء إلى معيلات لعائلاتهن، أو اضطرتهن الظروف للعمل لمساعدة أزواجهن في تأمين دخل مقبول للأسرة.
رغد من دير الزور عمرها 19 سنة تعيش مع والدتها وأسرتها المكونة من جدتها وعمتها المطلقة تقول: إن والدها معتقل منذ بداية الأحداث وظهرت صورته مع ضحايا قيصر.
تركت رغد المدرسة لأنها الأخت الكبرى بين شقيقاتها السبعة وأخيها الذي لم يتجاوز العشر سنوات بأشهر رغم تفوقها، فلم يعد للأسرة معيل، ما دفعها للعمل في معمل للمنظفات تقول: أصيبت يداي بالحساسية من المواد الكيماوية، رغن أنني أستعمل القفازات البلاستيكية.
لكن يديها الصغيرتين لم تحتملا تركيز المواد الكيماوية التي يقوم المعمل بإنتاجها، كما أنها لم تجد غير هذا المعمل الذي قبل بتوظيفها بدون سيكورتا (تأمين صحي).
بالرغم من صغر سنها فقد تحملت مسؤولية أسرتها وتحولت إلى المعيل الوحيد للأسرة.
تتابع رغد حديثها: عندما كنا في المخيم أجبرت أمي على تغير مواليدي أتصبح فوق 18 عشر حتى أتمكن من الخروج من المخيم دون وجود أحد الوالدين من أجل العمل في الزراعة.
وعلى الرغم من أن القوانين الدولية وميثاق حقوق الإنسان يمنع عمالة الأطفال إلا أن القوانين شيء والواقع شيء مختلف تماماً، فصاحب العمل كما تقول رغد يحرص على تشغيل فتيات صغيرات السن لأنهن لا يطالبن بأجر أعلى ولا يناقشن ظروف العمل مهما كانت سيئة كما تفعل السيدات الأخريات.
تتحدث رغد عن والدها الذي اختفى عندما كان عمرها 9 سنوات حتى صورته وملامح وجهه تكاد تمحى من مخيلتها، لا تزال تنظر للبعيد وهي مستمرة بالحديث عن والدها وكأنها تستحضر الذكريات الجميلة فجأة تقول: أنا أتذكر أنه كان يشتري لنا كل حاجياتنا وملابس جديدة في العيد ونذهب معه إلى السوق، كنا سعيدين جداً بوجوده معنا، لكن اليوم أنا أفتقده وكذلك أمي وشقيقاتي وخاصة أختي الصغيرة التي تسألنا دائماً عنه.
التقينا عائشة من دير الزور، التي لم يكن حالها مختلفاً عن كثير من النساء اللواتي يعيشن في ولاية أورفا، فقد هجرت من بلدها تحت ضغط الحرب وبعد سقوط قذيفة قريبة من منزلهم كادت تودي بعائلتها فقررت الهروب إلى قدر مجهول.
بحث زوج عائشة عن عمل ولكن الأبواب كلها كانت موصدة في وجهه فهو لا يملك أي عمل أو مهنة ولا حتى شهادة علمية فقد كان عاملاً غير ثابت في سوريا، وأخيراً وقفت اللغة حاجزاً أمامه، ما دفع عائشة للخروج والبحث عن عمل رغم أن حالها لا يختلف كثيراً عن حال زوجها.
تضيف عائشة: في النهاية حصلت على عمل، وهو تنظيف صحون في مطعم بأجر 50 ليرة تركية و12 ساعة عمل. لم تتذمر عائشة من طول فترة العمل والأجر القليل، ولكنها كانت قلقة على أطفالها الذين تجبر على تركهم لوحدهم في البيت وما يزيد من مخاوف عائشة كما تقول: إن لديها بنات وأصبحن في سن الرشد وزوجها الذي لم يستطع الحصول على عمل ثابت اضطر أن يذهب إلى الدوار (مكان يتجمع به السورين ممن لم يجدوا عملاً) ويجلس من الصباح الباكر وينتظر أن يأتي أحدهم ويبحث عن عامل لنقل أغراض إلى أحد الطوابق أو تفريغ شاحنة ليعود في آخر النهار إما ببضع من الليرات أو بخفي حنين هكذا ينتهي اليوم بكل متاعبه الشاقة.
تأثير سوق العمل التركي على العمالة السورية
ومن جهة أخرى استقطب سوق العمل الشرائح الشابة والقُصّر بنسبة أعلى، وهو ما زاد نسبة عمالة الأطفال السوريين في تركيا؛ حيث إن دمج الطلاب السوريين في المدارس التركية وما صاحبه من صعوبات من جهة، والاحتياجات الاقتصادية للعائلات من جهة أخرى أدّت إلى تسرّب أعداد كبيرة من الطلاب السوريين، لاسيما في المراحل الإعدادية والثانوية فقد وجد هؤلاء أنفسهم أمام خيارات محدودة، من ضمنها الالتحاق بسوق العمل لتحصيل دخل إضافي، وتعلم مهنة بالممارسة تمكّنهم من الاعتماد على أنفسهم مستقبلاً.
وقد خسرت هذه الشريحة الشابة فرصة الحصول على تعليم جيد في تركيا، كما خسر العديد من الشباب فرصتهم لإتمام دراستهم الجامعية حين اضطروا لمغادرة سوريا بشكل فجائي خوفاً من الملاحقة أو التجنيد الإجباري، دون أن يستطيعوا استخراج أوراق تثبت وجودهم السابق على مقاعد الدراسة التي لم يتمكنوا من إنهائها، وقد اضطرتهم الظروف إلى الذهاب لسوق العمل لتأمين قوت يومهم، رغم أنهم كانوا قادرين على تحسين وضعهم التعليمي فيما لو توفرت لهم ظروف أفضل.
بيسان ذات الأربعة عشر ربيعاً، والتي كانت تحلم بأن تصبح معلمة، فهي متفوقة في دراستها ولكن تسير الرياح بما لا تشتهي السفن، فبعد خروجهم من مخيم أضنة واستقرارهم في أورفا، التحقت بمدرسة تركية، وبعد حوالي أسبوع، طلب منها المعلم أن تحل سؤالاً على السبورة، لكن بيسان وخلال الفترة الماضية كانت تعتمد على صديقتها في الترجمة، توجهت نحو السبورة وهي تكاد تغوص في ثيابها من الخجل والخوف، تكلم معها المعلم بالتركية، التي لا تعرف منها إلا الأحرف، فلم تعرف ما هو المطلوب، أعاد المعلم السؤال، فنظرت بيسان نحو صديقتها التي لم تستطع مساعدتها ما دفع المعلم لضربها بمسطرة كانت بيده.
عادت بيسان إلى مقعدها وبدأ الطلاب بالضحك بصوت عال، لم تخرج بيسان في الاستراحة وانتظرت حتى نهاية الدوام، وأخبرت والديها بأنها لن تذهب للمدرسة مرة أخرى.
تضيف بيسان التي تعمل اليوم في معمل ألعاب، فضلت العمل لمساعدة والدي الذي خسر عمله في الصناعة حيث أن عمله في سورية كان في مجال تصليح السيارات بسبب جائحة كورونا.
حالياً يعمل والد بيسان في جمع الكرتون، ويكسب منه القليل الذي لا يكفي لتسديد إيجار البيت والفواتير والمصروف.
ذهبت أحلام بيسان بسبب وضع الأسرة المادي، ولكن كمية القهر الأكبر التي تعيشها بيسان هي أنها تصنع الألعاب وهي غير قادرة على شرائها أو اقتنائها تقول بيسان عندما أمسك اللعبة لأحشوها بالقطن أتخيل نفسي ألعب بها وبذلك أنسى تعبي طوال اليوم وأعود سعيدة الى البيت لأنني لعبت بألعاب كثيرة جميلة.
الصعوبات الأساسية التي تواجه اللاجئات السوريات في العمل
تشير الدراسة السابقة إلى أن الاحتفاظ بنسبة كبيرة من السوريين في وظائف منخفضة المهارا،ت يعيق فرصهم في الاندماج السريع، مع استمرار استنزاف العديد من الخدمات الاجتماعية، وقد يؤدي الاندماج البطيء أيضاً إلى تجمع السوريين في الأحياء الفقيرة؛ ما قد يؤدي إلى نشوب صراع اجتماعي مستقبلي، كما قد تعزز العمالة الرخيصة ما يمكن أن يشكّل أنشطة اقتصادية غير مربحة، مع أخذ موارد قيمة من قطاعات مستدامة طويلة الأجل وأكثر إنتاجية.
ووفقاً لنتائج الاستبيان والدراسات السابقة فإن 71.52% من المشاركات لا يملكن مصدر دخل، وذلك يعكس الحاجة إلى تمكين وتأهيل المستجيبات لتوفير مصدر دخل ذاتي.
عدم امتلاك السيدات لمهارات أو مهن تمكنهم من دخول سوق العمل وبلغت نسبة القادرات على التعليم 20.86%، بينما توزعت النسب المتبقية بين المهارات الأخرى كالخياطة والنسيج وما إلى ذلك.
وفي الاستبيان أفادت 56.29% من المشاركات برغبتهن في تعلم مهارات فكرية وتقنية جديدة، و43.09% من النساء المشاركات لا يمتلكن صعوبات أو تحديات تمنعهن من التعلم، بينما شكل الوقت تحدياً لما نسبته 15.45% منهن.
وأوصى التقرير في ختامه إلى تحويل المشاريع وبرامج الدعم نحو التنمية بدلاً من الإغاثة، وفتح المجال لتطبيق ما يتم تعليمه وتدريبه لضمان استدامته.
ودعا إلى إعطاء الأولوية لبرامج التعليم والتدريب، في وقت تشهد فيه برامج الدعم النفسي والاجتماعي تراجعاً في الطلب إلى حد ما وفقا لآراء المشتركات.
ولفت إلى مدى أهمية إشراك والاستماع إلى مقترحات اللاجئات اللواتي يسعين إلى تطوير قدراتهن لدعم عائلاتهن، وضرورة أخذها بعين الاعتبار عند تخطيط البرامج وتنفيذها.
بالإضافة إلى تمكين وإعداد اللاجئات السوريات للانخراط في سوق العمل، وأيضاً زيادة الوعي للشركات والمؤسسات حول توظيف اللاجئات.
وهو ما يعرّض السوريين والمجتمعات التركية الضعيفة، ولا سيما النساء، لظروف عمل سيئة وعمالة غير نظامية وأجور منخفضة وغير منتظمة. ويتسبب هذا الوضع بتوترات اجتماعية، وهو أمر قد ثبتت صحته خصوصاً خلال جائحة كوفيد-19.
مقال عميق ومكثف يرصد واقع المرأة السورية المؤلم في بلاد اللجوء والتحديات التي تواجهها.. شكراً لجهودك المستمرة أستاذة جيهان لتسليط الضوء على معاناة المرأة السورية العاملة في تركيا وعلى الاجحاف الذي تلاقيه من أرباب العمل. سلمت أناملك..
موضوع مهم جداً في هذه المرحلة التاريخية من عمر الثورة السورية المباركة ودور المرأة في هذا الظرف العصيب الذي يمر به شعبنا السوري العظيم. إن إنارة الضوء على مثل هذا الموضوع يحتاج إلى مجلدات ولعل البداية تفتح الطريق أمام الآخرين للبناء عليه وتطويره واعطاءه حقه من المعالجة. وكل طريق طويل إنما يبدأ بخطوة.
من الاستاذ الصحفي سمير طوير