fbpx

على أطلال المأساة السورية.. قراءة في فقه القيام

0 249

لا أستطيع أن أضيف إلى المأساة السورية شيئاً، فقد كتب فيها السياسيون والإعلاميون والشعراء والمشايخ والقساوسة، ورغم اختلاف أقلامهم وتحليلاتهم ولكن الجميع متفق أن البلاد منيت بكارثة تاريخية ماجقة هدمت حضارتها ومزقت كيانها وأوقفت قيامها، ووضعتنا على أعتاب القبور.

ولكن هل سنضيف إلى الندابين نداباً وإلى النواحات نائحة؟ لا أعتقد أن طقوس المأساة تحتمل مزيداً من الدموع، ولكن يمكننا أن نقرأ في التاريخ روحاً اخرى لعلها تعيد إلى السوري بعض أمل من قيام وعافية، وسأختار هذا المشهد من بغداد عاصمة الحضارة الإسلامية لأكثر من خمسة قرون، وعاصمة الفكر والثقافة العربية في العصور التالية.

في تاريخ بغداد نقرأ معالم السقوط وشروط النهضة:

ومن حوى التاريخ في صدره     أضاف أعماراً إلى عمره

في القرن السابع الهجري سقطت بغداد سقوطاً مروعاً حين دكت جحافل المغول والتتار أسوارها، وسقط الشر من كل مكان على أسوار المدينة الباسلة، وبدا لكل من يتتبع الحدث أن بغداد فقدت دورها ومكانتها كعاصمة للخلافة والحضارة وقد وقع  يومذاك من الفظائع والكوارث ما جعل بغداد محرقة هائلة، واتفق كل الذين كتبوا عن الكارثة على هول المشهد، وكتب القرطبي في تفسيره الكبير في آخر سورة الأنبياء إنها القيامة بكل تأكيد، وما هولاكو إلا يأجوج ومأجوج الذين ستقوم بهم القيامة وينتهي بهم العالم، وباتت الأمة الإسلامية لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

ولكن بغداد التي مات رجالها ونساؤها تحت سنابك الخيل لم تمت، وراحت تخلق جيلاً جديداً يؤمن بالحياة وتمكنت من تجاوز المحنة السوداء وبدأت في استئناف دورة حضارية جديدة ، لقد كان التحدي رهيباً في تلك اللحظات، فمعالم المجد التي كانت ترسم ملامح تلك المدينة الباسلة قد تم تدميرهها وسرقتها واغتيالها، حتى سار دجلة بالماء الأزرق من لون حبر الكتب التي تمت إراقتها في تلك الأيام السوداء، وهو المعنى الذي أشار إليه إقبال بقوله وهو يستنشد أطلال مراكز المعرفة على شط دجلة ويحمل أمواجه مسؤولية رواية هذه المعرفة للأجيال الآتية:

يا دجلة هل سجلت على           شطيــك مآثر عزتنا

أمواجك تروي للدنيــا          وتعيد معــالم سيرتنا

أيام رديئة تلك التي نراقب فيها اليوم سرقة تراث بغداد وحضارتها، وانهيار المنطومة الاجتماعية المرعب، ولكنها بالتأكيد لا تبلغ ذلك الدمار الذي مارسه المغول، لقد تمت سرقة تراث بغداد اليوم ولكن هذا التراث على الأقل تمت سرقته وليس تصفيته، وثمة آمال لدى المشتغلين بالثقافة أن يتمكن الإنسان فيما يأتي من الأيام أن يسترد هذه المسروقات، إضافة إلى أن كثيراً منها أعمال مطبوعة يمكن نظرياً تعويضها بالمال، ولكن الحالة في ظل الغزو المغولي كانت أشرس وأقسى، لقد تم تدمير المعرفة عن عمد وسبق إصرار، ولم يعد ثمة بارقة أمل أن يعود شيء من ذلك التراث الضائع ، التي أصبح أثراً بعد عين!!

لقد كان الغزو المغولي أكبر غزو عرفته البشرية وتمكن تموجين (جنكيز خان) من بسط مملكة عاصمتها قرقورم في منغوليا تحكم الصين واليابان وآسيا الوسطى وتمتد غرباً إلى بلغاريا، وحين مات جنكيز خان انقسمت مملكته إلى أربعة أقسام القبيلة الذهبية ومقرهم في قازان بروسيا وحكموا القوقاز والهضبة الروسية إلى بلغاريا، والإيلخانات ومقرهم في تبريز ويحكمون العراق وإيران وهم من أسقطوا بغداد، والقره حانيون في بخارى ويحكمون آسيا الوسطى وغرب الصين، ولا تزال إلى اليوم أكبر دولة في تاريخ العالم.

ولكن بغداد قررت المضي في التحدي إلى النهاية: نيرون مات ولم تمت روما، بعينيها تقاتل، وقرر ذلك الشعب الحضاري أن يمضي في التحدي إلى النهاية، وتحركت إرادته في سبيل آخر ، لم يكن عسكرياً ولا قتالياً وإنما كان تحركاً حضارياً عبر رجال كبار، لا نملك في الواقع سجلاً دقيقاً لأخبارهم، ولكن المشهد كان مثيراً إلى الحد الذي جعل رواية التاريخ ترتسم بطريقة غير مألوفة فبينما أنت تقرأ عن فظائع المغول في عام 656هجرية، وعن ألف ألف عراقي ذبحوا على شاطئ دجلة، وما سال من أنهار الدم منهم، على يد الفاتكين المغول، تنتقل الرواية فجأة لتستأنف الحديث عن ممالك مغولية إسلامية كالمغول القبجاق والمغول السبكتكينية!! بالطبع لا يتسق في السرد التاريخي أي تأويل منطقي لما جرى وفق الأحداث!! ولكن من المؤكد أن المغول الذين قاموا بهدم بغداد وتدمير حضارتها تحولوا بعد أقل من ربع قرن  إلى رعاة للحضارة الإسلامية، وقد دخلت ثلاثة من دولهم الأربعة في الإسلام، وتحول ملوكها وأباطرتها إلى شركاء في بناء الحضارة الإسلامية وتركوا آثاراً عمرانية وحضارية متميزة، فيما بقيت الدولة المركزية على دين جنكيز خان.

وتحول المغول من توحش ضار مفترس، إلى جزء من المجتمع، وأعلنوا تحولهم عن المشروع الاستكباري المدمر، وتحولوا إلى مسلمين، وقاموا ببناء المدارس والمساجد والخاتقاهات والبيمارستانات، ويمكن القول الآن إن أجمل المساجد والمدارس المبنية في باكستان والهند وأوزبكستان وأفغانستان وغرب الصين وروسيا والقوقاز وحتى في إيران هي من بناء المغول، ويتحدث الناس اليوم عن تاج محل كأروع بناء بناه الإنسان في الأرض وهو في الواقع أثر مغولي إسلامي بناه شاه جهان  تخليداً لروح زوجته عام 1648م أي بعد سقوط بغداد  بيد المغول نحو أربعة قرون.

وهذا المعنى خلده إقبال بقوله:

بغت أمم التتار فأدركتها     من الإيمان عاقبة الأماني

وأصبح عابدو الأصنام قدماً    حماة البيت والركن اليماني

لم تقم الجيوش الإسلامية بتغيير التاريخ واقتصر دورها على وقف زحف المغول إلى مصر، ولكن المجتمع الإسلامي أطلق تحدياً حضارياً من نوع آخر، ونجح رجال عباقرة في إحناء رأسهم للعاصفة ثم القيام من بعدها على أنقاض الخرائب، لإطلاق حوار حضاري مع الجيوش المتوحشة، التي باتت تحتاج للأرض وتنتظر وصالاً مع الناس، ومع أننا لا نملك في الواقع تقارير دقيقة للرجال الذين قاموا بهذا الدور التاريخي لتحويل المغول إلى الإسلام وإن كان بالإمكان أن نشير عرضاً إلى بعض الأسماء التي وردت في أعمال متفرقة كعلاء الدين الجويني وسيف الدين الباخرسي، ورشيد الدين الكاشغري وآخرون لا يعرف منهم إلا أسماؤهم، ولكن التحول التاريخي لم يكن في الواقع نشاطاً فردياً قام به أفراد متحمسون بقدر ما كان روح الأمل والحياة التي نفحتها بغداد الحضارة والتاريخ والمجد للأرض من حولها، حتى غمرت بدفئها وحنينها جحافل العسكر الهائجة على أرضها، وأمامها وقف أبناء هولاكو يشعرون بعجز وسائلهم العسكرية العاتية أمام روح بغداد، وأدركوا أن شيئاً واحداً يمكن أن يفعلوه هو أن يجثوا على الركب أمام مجد بغداد، يتعلمون منها ويأخذون عنها في درس تاريخي خالد أن الروح أقوى، وأنه لها الخلود الذي يستعصي على الموت.

أنها لم تكن محض أوهام تلك التجليات التي حيرت المؤرخين وهم يكتبون تاريخ بغداد وقيامها من ركام الموت، ولكنها صورة حقيقية للتدافع الحضاري الذي يجري وراء الجيوش المتوحشة، ويتسلل بين الدروع والسيوف والمحاجر ليعيد بعث الإنسان في جوهر الذات البشرية، وفي النهاية نجح هؤلاء الرجال في بناء الجسر المفقود بين الإنسان والإنسان، ونجحوا في تأكيد صورة انتصار الخير على الشر والأمل على اليأس والعافية على البلاء.

في النهاية لا أكتب هذا المقال لأقدم حلاً سياسياً للمأساة السورية، ولكنني أقدم جرعة أمل للإنسان السوري الذي شهد على هذه الأرض قيام الحضارات منذ فجر التاريخ، ومنذ عهد الإله بعل الذي نادى الجميع أن يحولوا سيوفهم إلى معاول، وأن يزرعوا في الأرض وينتظروا المطر من السماء، فإن هذه الأرض استمرت تتعاقب فيها الحضارات، فالجيوش راحلة والقواعد العسكرية مؤقتة والبقاء للإنسان هو ملح الأرض ومادتها وهو مشروعها الحضاري الى الأبد.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني